والجواب: إن الآية الكريمة في الذين مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في الدين كله والنصرة، الملازمين له على ذلك، ولذلك وصفهم بالصفات المذكورة، وهي تنافي صفات المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، وقد كانوا في المدينة المنورة بصورة مسلمين، قال الله تعالى فيهم: ] لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلاّ قليلاً * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً [(1)[49]) وقال تعالى: ] وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم [(2)[50])، فقوله تعالى: ] محمد رسول الله والذين معه [ لا تعم من تسمونهم صحابة، بل هي خاصة بالخلص أهل الدين الكامل، ممن أسلم قبل الفتح، الذين كانوا معه عند نزول الآية الكريمة. يؤكد ذلك أنه قال: ] رحماء بينهم [. وأين الرحمة ممن قاتلهم ولعنهم ورماهم بالكذب ؟ فهل يعد فاعل ذلك ممن وصفوا بأنهم رحماء بينهم ؟ أين الرحمة ممن يجهد في هلاكهم وإذلالهم ؟ هل من إنصاف ؟ ] يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون [(3)[51]).
__________
(1) 49]) سورة الأحزاب: الآيات 60 / 61.
(2) 50]) سورة التوبة: الآية 101.
(3) 51]) سورة آل عمران: الآية 71.(1/61)

معنى الحديث: ( خير القرون قرني... )

وأما الحديث الذي روي عن عمران بن حصين: « خير القرون قرني ثم الذين يلونهم... »(1)[52])، فهو إن صح، كلام على جملة القرن لا في كل فرد. فمعناه شيوع الصلاح بين الثلاثة القرون بالنسبة إلى غيرها من القرون، وليس فيه دلالة على صلاح كل فرد من أفراد الثلاثة القرون. إنما يفيد أن الصالحين في الثلاثة القرون أكثر من الصالحين في غيرها، فكانت كثرة الصالحين فيها فضيلة تنسب إلى جملة القرن عند المقارنة بينه وبين سائر القرون. مع أن الخيرية لا تتعين في الصلاح والدين، فقد يمكن أن يفضل القرن بمآثره التي تنسب إليه من المصالح الدينية والدنيوية، وإن كان الكثير من أهل تلك المآثر غير صالح في دينه صلاحاً كاملاً، بحيث أنه لا يعتبر عدلاً، وهو مع ذلك قد أيد الله به الدين كما في الحديث: « إن الله ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر »(2)[53]) أخرجه البخاري، فكانت القرون الأولى على هذا خير القرون، لتثبيتها قواعد الإسلام بالجهاد لا لصلاح كل فرد في دينه وكمال عدالته، وهذا على فرض صحة الحديث: « خير القرون » والله أعلم.

سلسلة الاتهامات ـ قبول أو ردّ رواية الصحابي بمجرد الهوى
قال مقبل: « على أنهم يقدحون في الصحابة إذا رووا ما يخالف أهواءهم، وأما إذا كان موافقاً لأهوائهم فإنهم يأخذون بروايتهم وآرائهم، والدليل على هذا أن أول حديث في الشفاء للأمير الحسين(رضي الله عنه)من حديث لمغيرة بن شعبة، وهو عندهم مجروح العدالة ».
__________
(1) 52]) صحيح البخاري: كتاب الشهادات، الحديث 2458، وفيه « خير الناس قرني ».
(2) 53]) صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، ح 2834.(1/62)

والجواب: أما أولاً، فقول مقبل « يقدحون في الصحابة » كلام باطل من جهة أن ظاهره العموم، وهو كذب إن أراد العموم. وتدليس إن أراد الخصوص، ليوهم العموم ويشنع ] يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون [(1)[54]).
وأما ثانياً: فقول مقبل « إذا رووا ما يخالف أهواءهم، وأما إذا كان موافقاً لأهوائهم فإنهم يأخذون بروايتهم وآرائهم ».
فالجواب: إن تعليق الرد والقبول على مخالفة الهوى وموافقته، إن أراد به الهوى في غير الحق أو الهوى المطلق من غير اعتقاد أنه موافق للحق أو مخالف، بل الهوى هو القائد لهم دون اعتقاد الحق، فهذه كذبة من كذبات مقبل، وإن أراد به هواهم فيما يعتقدونه الحق والصواب، فقد دلس ولبس وأوهم أنهم إنما يتبعون أهوائهم.
__________
(1) 54]) سورة آل عمران: الآية 71.(1/63)

ومقبل في هذا الكذب أو التدليس متبع لهواه، منقاد لدواعي البغض والعصبية. ولو أنصف بعض الإنصاف لكان صواب عبارته أن يقول: إنهم يقدحون في بعض من يسميهم صحابة إذا روى مخالفاً لمذهبهم، ويقبلونه إذا روى موافقاً لمذهبهم. وهذه العبارة وإن كانت غير كاملة في الأدب، لإيهامها التعصب المذهبي، إلا أنه مع الجدال يحتاج إلى إيراد المعنى، ولكن الصواب إيراده حينئذ بصورة السؤال، بأن يقول: ما بالهم لا يجرحون فيه إذا روى ما يوافقهم بل يقبلونه، حتى إذا روى ما يخالفهم جرحوه ؟ فكان هذا هو، اللائق بالأدب مع علماء الدين أهل الفضل والزهد والورع والصبر والجهاد، وخصوصاً ذرية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي كان ينبغي له أن يرقب محمداً فيهم، ويذكر الله عملاً بوصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، دون أن يرميهم بالباطل باتباع الهوى، ويوهم أنهم يرون سب الصحابة عموماً بلا ملجئ، وهو يمكنه الجدال بدون كذب ولا عمل بسوء الظن الذي نهى الله عنه في قوله: ] اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم [(1)[55]) ولا تغرير وتلبيس.
هذا، وأما عملهم برواية الرجل إذا روى ما يوافق وترك ما خالف الحق من الروايات، فهو إنما يدل على أن الرجل غير حجّة عندهم، ولكنهم يعرضون حديثه على غيره ويتبيّنون صدقه أو كذبه، فلا يجب أن يجعلوا رواياته كلها كذباً ولا كلها صدقاً. وأما حديث المغيرة الذي في أول الشفاء فهو في بعض آداب قضاء الحاجة، ومعناه موافق، لأنه من الحياء والحياء من الإيمان.

سلسلة الاتهامات ـ ترك كتب السنة
قال مقبل: « وهب أيها الطاعن في كتب السنة أننا تركناها لقولك... ».
__________
(1) 55]) سورة الحجرات: الآية 12.(1/64)

الجواب: هذه العبارة في التعميم لكتب السنّة كعبارته الأولى في تعميم الصحابة في قوله: « يقدحون في الصحابة » والجواب هنا كالجواب هناك، لأن قول السيد الصيلمي: « إن الذي روى التأمين يروي عن الفسقة والظلمة » ليس قدحاً في الكتب، ولا أمراً بترك جميع ما فيها، إنما هو احتجاج لكون راوي حديث التأمين لا يقلّد في تصحيحه، وأن تصحيحه له لا يدل على صحته على أصولنا. وذلك الكلام من السيد علي بن هادي الصيلمي لا يدل على أنه يدعوك إلى ترك كتب السنة. وأين ترك كتب السنة من ترك تقليد البخاري في تصحيحه لحديث التأمين من حيث أنه رواه في صحيحه ؟ ألا يمكن قراءة كتب السنة إلا بتقليد أهلها، بمعنى أن يقلد كل واحد من أهل الكتب في تصحيح ما صحح ؟ ألا يمكن البحث والنظر وتحرير الفكر من ربق التقليد والعمل بالصحيح وترك ما لم يثبت عند الباحث، وإن ادعى غيره ثبوته ؟ ألا يمكن معرفة الرجال بمعرفة أحاديثهم وعرضها على الكتاب والسنّة المجمع عليها، والمعلوم من السنّة بالتواتر أو بالشهرة والقرائن التي تنضم إلى الشهرة حتى يحصل العلم اليقين ؟ ألا يمكن معرفة الرجال بمعرفة أحاديثهم وعرضها على حديث الآخرين، حتى تكثر الشواهد في غير مسائل السياسة ومسائل التعصب، التي كثرتها السياسة أو التعصب المذهبي ؟ فإذا كثرت الشواهد واطمأن القلب إلى أن سبب كثرتها ليس إلا صحة الحديث عمل به فيما لا يخالف المعلوم، بعد البحث في النسخ إن كان نسخ ونحو ذلك.
* * *(1/65)

13 / 58
ع
En
A+
A-