وفي أوائل « الاعتصام » فصل: ( واعلم أن الجرح بمجرد المذهب لا يخلو إما أن تقوم الدلالة على كونه حقاً أو لا ). الثاني: إما أن تقوم الدلالة على بطلانه أو لا، فالذي لا تقوم الدلالة على بطلانه ولا على كونه حقاً يجب النظر في الرجال، وأما من قامت الدلالة على بطلان مذهبه فهو مجروح باتباعه للباطل وتماديه عليه، لا سيما إذا أقام العلماء الحجج عليه كالمشبهين لله تعالى بخلقه والرادين لقوله تعالى: ] ليس كمثله شيء [(1)[45]). وكالقدرية مجوس هذه الأمّة، خصماء الرحمان، وشهود الشيطان، والمرخصين للمسلمين في ارتكاب المعاصي، القائلين: إن الإيمان قول بلا عمل، أو الاعتراف بلا قول ولا عمل. وكالنواصب والغلاة الروافض... إلى آخر الفصل، راجعه فإنه مفيد جداً ومقدمة الاعتصام كلها مفيدة هامة جداً.

نبذة من مخالفات البخاري
قال مقبل ( ص 17 ): « فهل تقصد أن البخاري روى لمروان بن الحكم وعمران بن حطان » ؟
فالجواب: إن البخاري لم يعتمد عليهما، ( كذا ).
قال مقبل: « إلا أن لما روياه شواهد في كتب غير كتاب البخاري ».
__________
(1) 45]) سورة الشورى، الآية: 11.(1/56)

والجواب: إن هذا لا يدل على أن البخاري لم يعتمد عليهما، بل إيراده لهما في الصحيح وترك غيرهما يوجب التهمة بأن الرواية عنهما أحب إليه من رواية تلك الأحاديث عن غيرهما، لأن روايتهما أوثق عنده، أو لأن ذلك تقوية لجانب النواصب. وعلى كلا التقديرين فهو متهم بالميل إلى النواصب واعتقاد صدقهم، وذلك خلاف مذهب الزيدية وغيرهم ممن ينتمي إلى أهل البيت(عليهم السلام). وإذا كان ذلك كذلك، فلا ينبغي للزيدية المخالفين له في أصول الجرح والتعديل أن يعتمدوا روايته، وقد رأوه يروي عن النواصب الذين هم مظنّة النفاق، أو يحكم عليهم بالنفاق لبغضهم عليّاً(عليه السلام)، والمخالف في المذهب لا يقلَّد، لأن تقليده يؤدي إلى اتباعه فيما هو فيه مخالف لمذهب المقلِّد الذي يعتقده باطلاً. وقد قررنا فيما مضى أنّ الاتباع في التصحيح بدون اعتماد من التابع على حجة أنه تقليد، وتقدم ذكر احتجاج مقبل على تحريم التقليد.(1/57)

ومن مخالفات البخاري اعتماده على بعض من يخالط السلطان، وذلك مخالف لحديث « الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا »(1)[46]) فقد اعتمد على عدد ممن نسب إليه ذلك، منهم: الزهري، وأحمد بن واقد الحراني، وحميد بن هلال، وخالد بن مهران، وعاصم بن سليمان، وأبو الزناد عبدالله بن ذكوان. وليس المراد الاعتراض على البخاري ومن رأى رأيه في ذلك، ولكن المراد أنه لا يلزم من يخالفه في أصول الجرح أن يقلده فيها، ولا في تصحيح الحديث وتضعيفه. وهذا واضح عند من أنصف، وليست مخالفة البخاري في عمران بن حطان ومروان وحدهما، فقد روى عن غيرهما ممن رمي بالنصب أو برأي الخوارج، مثل: بهز ابن أسد، وثور بن زيد الديلي، وثور بن يزيد الحمصي، وحصين بن نمير الواسطي، وداود بن الحصين المدني، وعكرمة مولى ابن عباس، وفليح بن سليمان الخزاعي المدني، وقيس بن أبي حازم البجلي، والوليد بن كثير المخزومي.
ومن مخالفات البخاري روايته عن عكرمة عن ابن عباس الاعتراض على علي(عليه السلام)في تحريق الزنادقة، وأن ابن عباس قال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):« لا تعذبوا بعذاب الله... »(2)[47]) الخ. وهذا فيه تغليط لعلي(عليه السلام)وهو أقضى الأمة وأعلمها بأحكام الله، وعكرمة متهم بقصد الحط من فضل علي(عليه السلام)وتصغير شأنه، لكون عكرمة من الخوارج. فالمخالفة من البخاري في قبول روايته فيما ينصر بدعته مخالفة أخرى مع المخالفة في الرواية عنه وهو خارجي.
__________
(1) 46]) الكافي للكليني 1 / 46 باب المستأكل بعلمه ح5، وبحار الانوار للعلامة المجلسي 2 / 36، ح 38.
(2) 47]) صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، الحديث 2794.(1/58)

ومن مخالفات البخاري ( ج 10 ص 325 ) ما أخرجه عن قيس بن أبي حازم، أن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)جهاراً غير سر يقول: « إن آل ابي ـ قال عمرو في كتاب محمد بن جعفر ـ: بياض ـ ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين ».
قوله: « بياض » أي في النسخة بياض عقيب قوله: إن آل أبي، فهنا ترك بياض لم يكتب فيه المضاف إليه بل حذف.
قال ابن حجر في شرحه ( ج 10 ص 351 ): قال ابن التين: حذفت التسمية لئلا يتأذى المسلمون بذلك من أبنائهم، وقال النووي: هذه الكناية من بعض الرواة خشي أن يصرح بالاسم ( أي لو قال: آل أبي طالب مثلاً ) فيترتب عليه مفسدة إما في حق نفسه وإما في حق غيره وإما معاً....
وبعد هذا نقل ابن حجر الخلاف في المحذوف، ثم قال: قال ابن العربي في سراج المريدين: كان في أصل حديث عمرو بن العاص ـ إن آل أبي طالب ـ فغير آل أبي فلان كذا جزم به. ثم رجح ابن حجر هذا القول وقال: وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنهم أن ذلك يقتضي نقصاً في آل أبي طالب، وليس كما توهموه، كما سأوضحه. ثم تكلم في الموضوع بما لا يفيد عند التحقيق، ثم قال في ( ص 354 ): ولو تفطن من كنى عن أبي طالب لا ستغنى بذلك عما صنع....
قلت: قد حقق أصل الرواية، فأما تأويلها فهو فاسد، لأن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أفصح العرب، لا يأتي بالكلام ناقصاً عبارة عن معنى لا يفيده إلا بزيادة في اللفظ، ويترك الزيادة بحيث يوهم المعنى الفاسد، لأن هذه إنما تكون ممن لا يحسن التعبير، ولطول كلامه تركت نقله. والمخالفة من البخاري في رواية هذا الحديث من حيث روايته من طريق قيس ابن أبي حازم، عن عمرو بن العاص، وهو فيما يقوي بدعة النواصب.(1/59)

ومن مخالفاته رواياته عن الزهري، وهو من خلطاء بني أمية التي بيّنتها في كتاب الزهري، وهي كثيرة يقضي بها أغراض الأموية أو شيعتهم. فالبخاري في ذلك غير موافق لمذهب الشيعة، فلا يصلح منهم تقليده. وهذا يقوي كلام ابن حزم الذي نقلناه سابقاً أن الشيعة لا يصدقونهم.

معنى الآية ] محمّد رسول الله والذين معه... [
قال مقبل: « ولعلك تقصد بعض الصحابة. الذين حصل منهم بعض الهنات » أي الذين قال فيهم الصيلمي يروي عن الظلمة والفسقة.
قال مقبل: فالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قد أثنى الله عليهم في كتابه الكريم فقال: ] محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً [(1)[48]) الآية.
__________
(1) 48]) سورة الفتح: الآية 29.(1/60)

12 / 58
ع
En
A+
A-