هذا، ويمكن الاستدلال لفساد الصلاة برواية زيد بن أرقم: « حتى نزلت: ] وقوموا لله قانتين [(1)[42]) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام » فإنه يدل على أن ترك الكلام من معنى الآية، فيكون الكلام مفسداً من حيث أن المتكلم في الصلاة لم يمتثل هذا الأمر، فكانت صلاته غير الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: ] وقوموا لله قانتين [ فلا تجزيه وهو المراد بالفساد.
وعلى أصلنا، يدل عليه أيضاً ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي(عليه السلام)في الرجل يتكلم في الصلاة ناسياً أو متعمداً أنه تنقطع صلاته.
فأما ظن مقبل أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يأمر معاوية بن الحكم بإعادة الصلاة، فيمكن إبطاله بأن أصل الحديث لا يدل عليه، وعدم ذكر الأمر ليس ذكراً لعدم الأمر. ومن الجائز أن يكون معاوية ساق القصة لبيان رحمة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ورفقه في التعليم وحسن خلقه... » فذكر القصة ليبني عليها قوله: « ما سبّني ولا كرهني ولكنه قال... ». وإذا لم يكن غرضه مسألة النهي عن الكلام وما يلزم من تكلم، فلا يدل سكوته عن الأمر بالإعادة على عدم الأمر، بل ذلك مسكوت عنه، والسكوت لا يجب أن يكون سببه عدم الأمر، لاحتمال أنه سكت عنه لعدم الباعث على ذكره، حيث لم يكن ساق الكلام إلا لذكر رفق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وكرم أخلاقه، لا لغير ذلك.
هذا، والمسألة فرعية، ولكن يعرف بما ذكرناه أنه لا ينبغي أن يقال: لا دليل على منع الكلام في الصلاة بغير القرآن وأذكارها، لأن هذا الكلام قد يوهم أنه لا مستند لمن قال به، وإنما هو بدعة، فالقائل بذلك في حالة يحصل فيها الإيهام المذكور يكون مدلساً ومغرراً.
__________
(1) 42]) سورة البقرة: الآية 238.(1/51)
قال مقبل في ( ص 16 ): « فهل تعني بالذين يروونها ـ أي رواية التأمين ـ مالكاً والشافعي وأحمد والبخاري ومسلماً ؟ فالجواب: إن عبارة الصيلمي للمفرد حيث قال: والذي رواها يروي عن الفسّاق والظلمة، ولعله يعني البخاري ».
محنة البخاري
قال مقبل: « ولم يمت البخاري حتى قال: ( اللهم إنها قد ضاقت بي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك ) كل هذا من أجل كلمة الحق... ».
الجواب: أنها وقعت له المحنة بإعراض الناس عنه وكثرة القالة، بسبب ما نسب إليه من أنه قال: لفظه بالقرآن مخلوق، أو إلزامه هذا القول. وكانت هذه بنيسابور كما في مقدمة « فتح الباري » فرجع إلى بلده بخارى.(1/52)
والمحنة الثانية: وقوع الوحشة بينه وبين أمير بلده، بسبب امتناعه من طاعته لما أمره أن أحمل إليّ كتاب الجامع والتاريخ لأسمع منك. وفي رواية أمره أن يقرأ التاريخ والجامع على أولاده فامتنع، وقال: لا يسعني أن أخص بالسماع قوماً دون آخرين. فنفاه عن البلد، فدعا وهو في المنفى: ( اللهم قد ضاقت بي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك ) هكذا في آخر مقدمة فتح الباري. والله اعلم بالصواب. فالمحنة الأولى وقعت له بينه وبين الناس وكأنها بطريق المنافسة إن صحّت الرواية، وليست بسبب كلمة حق عند سلطان جائر، والمحنة الثانية: بسبب معصية الأمير، ولو أطاعه لكان موافقاً لإمامه الزهري إن صحت الرواية عنه. فقد روى ابن حجر في « تهذيب التهذيب » في ترجمة الزهري ( ج 9 ص 449 ) سأل هشام بن عبد الملك ـ الزهري ـ أن يملي على بعض ولده، فدعا بكتاب فأملى عليه أربعمائة حديث، ثم إن هشاماً قال له: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب فأملاها عليه...، فإن كان الزهري قد أهان العلم، فتلك مما يدل على ميله إلى الملوك، وأنه يطيعهم في معصية الله، وإن لم تكن إهانة للعلم فما الرخصة للبخاري في معصية الأمير وقد أمره بأن يقرأ كتابيه ؟ وكتاباه عنده حق، وسماعهما حق عنده. فالأمر على هذا ليس أمراً بمعصية حتى يحمد البخاري على مخالفته، مع أن مذهبه وجوب طاعة أميره في غير معصية الله وإن كان ظالماً، وهذا كله على فرض صحة الرواية. والله أعلم.
قال مقبل: فهل تعلم أن البخاري ومسلماً رويا: « ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلاّ حرّم الله عليه الجنة »(1)[43]). والأحاديث كثيرة في ذم الظلمة في الصحيحين وغيرها، فليس قولك: إنهم يروون عن الظلمة والفسقة، بضائرهم. انتهى باختصار.
__________
(1) 43]) صحيح مسلم: كتاب الايمان، الحديث 203، كتاب الإمارة، الحديث 3409.(1/53)
والجواب: إن هذا عدول عن الجواب عن دعوى الصيلمي بأن الذي رواها يروي عن الفساق والظلمة، وليس مفيداً في تصديق الدعوى ولا في ردها، فهو مراوغة.
سألته عن أبيه***فقال خالي شعيب
دعوى الإجماع على العمل بكتابي البخاري ومسلم
قال مقبل ( ص 16 ): « فقد أجمع المسلمون على الرجوع إلى مؤلفاتهم ».
والجواب: إن المسلمين عندك هم أهل مذهبك الذين يكفرون المسلمين ويرمونهم بالشرك، والرضا بالشرك والتسبيب للشرك. فقولك هذا لا ينفي خلاف المسلمين في التحقيق، ثم إنك أنكرت أن ينعقد إجماع بعد الصحابة، حيث قلت في ( ص 14 ): « وما أكثر دعاوى الإجماع المزعومة ورحم الله الإمام أحمد إذ يقول: من ادّعى الإجماع بعد الصحابة فقد كذب وما يدريه لعلهم اختلفوا » انتهى. فقد كذبت نفسك هناك في دعوى الإجماع هنا.
وفي الفصل لابن حزم ( ج 5 ص 94 ) بعد أن ذكر أقوالاً للشيعة في مسألة الإمامة من قوله في ( ص 92 ): « وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي(رضي الله عنه)، فإنهم انقسموا... »، ذكر فيه خلافات للزيدية والإمامية وغيرهم، ثم قال: قال أبو محمد: وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء، قال أبو محمد: لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقوننا، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقهم، وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام عليه الحجّة به، سواء صدّقه المحتج أو لم يصدقه، لأن من صدق شيئاً لزمه القول به، أو بما يوجبه العلم الضروي، فيصير الخصم يومئذ مكابراً منقطعاً إن ثبت على ما كان عليه، إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحاح نوافقهم على صحتها.(1/54)
منها: قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لعلي(رضي الله عنه): « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي... »(1)[44]).
فقد أفاد إجماع الزيدية والإمامية وغيرهم على عدم قبول روايات أصحاب ابن حزم الذين هم البخاري ومسلم ومن وافقهم، وهذا واضح، فإنها لو كانت كتبهم عمدة عند الشيعة لكانت عندهم بمنزلة كتبهم كثيرة شهيرة متداولة بينهم، كما هي بين أصحاب البخاري ومسلم. فأما مجرّد البحث فيها أو نقل الأحاديث الموافقة منها فلا يدل على اعتمادها على حد اعتماد القوم عليها، بل أكثر ما يدل ذلك عليه أن الباحث فيها يرى أن فيها أحاديث صحيحة لموافقتها ما عند الشيعة وإجماع الفريقين على روايتها، أو لموافقتها ما قد صح من وجه آخر، أو لموافقتها لدليل من الكتاب أو نحو ذلك، أو أن فيها ما يحتج به على المعتمدين عليها، فيحتج عليهم بما هو عندهم صحيح، أو أن فيها ما يوافق روايات كثيرة في كتب الحديث، بحيث يصير مشهوراً بكثرة مصادره وطرقه، ولا سبب لشهرته إلا صحته في الواقع، لعدم ما يسبب لكثرة طرقه من سياسة دولية أو تعصبات مذهبية.
وقال الإمام القاسم بن محمد في « الاعتصام » في آخره: فإن قيل: في رجال هذه الأخبار من لا يرتضى ولا يوثق بروايته. فالجواب، وبالله التوفيق: الحجّة عندنا رواية الأئمة(عليهم السلام) ومن يوثق بروايته من غيرهم، وإنما نورد في كتابنا مثل رواية من كان من الفئة الباغية الدعاة إلى النار، لأجل أنه حجّة على المخالف فيحتج به عليهم، وذلك واضح بحمد الله.
__________
(1) 44]) راجع: مجمع الزوائد 9 / 109 ـ 111 ط. دار الفكر، ومسند أحمد 1 / 179 ط. عالمية و 1 / 292، الحديث 1550 ط. دار إحياء التراث العربي وبحار الأنوار: 2 / 226، الحديث 3 و 5 / 21، الحديث 30 و 5 / 69، الحديث 1 و 6 / 216، الحديث 6، و 8 / 1، الحديث 1، و 9 / 311 الحديث 10.(1/55)