هذا القول من مقبل حجّة عليه، لأنه دليل على ثباتهم على مذهبهم حتى في حالة الخوف، فإنهم يحاولون السلامة بدون عدول عن مذهبهم. ألا ترى أنهم إذا قالوا: آمّين ـ بتشديد الميم ـ فقد قالوا كلمة من القرآن لا تفسد الصلاة لأنها من القرآن ؟ وإنما يرى من يرى فساد الصلاة بالتأمين لأنه ليس من القرآن، ولا من أذكار الصلاة المشروعة فيها، فهو كلام غير مشروع فيها عندهم، فهو منهي عنه بدليل الأمر بالسكوت في الصلاة، والنهي عن الكلام فيها. وهذا عام خصّ منه ما ثبت أنه مشروع فيها بعد النهي عن الكلام، وبقي سائر الكلام تحت النهي، ومنه التأمين عندهم.
نعم، فإذا كان الزيدية على هذا الوجه الذي ذكره من قولهم: آمّين ـ بتشديد الميم ـ فهو دليل على أنهم لا يتلوّنون كما زعم، لأنهم لو كانوا يتلوّنون مع الأغراض لقالوا: آمين ـ بتخفيف الميم ـ إذا حضروا عند من يرى التأمين وأرادوا أن لا ينفر عنهم، وإن لم يخافوا على أنفسهم.
فأما مع الخوف على النفس فلا إشكال في جواز التقية، ولعله لا يخالف في ذلك، ففي صحيح البخاري ( ج 8 ص 55 ) من أجزاء النسخة المجردة عن الشروح: كتاب الإكراه وقول الله تعالى: ] إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم [(1))وقوله: ] إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض [ إلى قوله: ] واجعل لنا من لدنك وليّا واجعل لنا من لدنك نصيراً [(2)). فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا مستضعفاً غير ممتنع من فعل ما أمر به. وقال الحسن: التقية إلى يوم القيامة، وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق: ليس بشيء، وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن. انتهى.
وقال ابن حزم في الفصل ( ج 4 ص 6 ): وقد ابيح الكذب في إظهار الكفر في التقية.
__________
(1)) سورة النحل: الآية 106.
(2)) سورة النساء: الآية 75.(1/46)

المبحث الرابع في أدلة منع الكلام في الصلاة
قال مقبل: بعد ذكر حديث من رواية يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي، وفيه: « إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس » أورده مقبل بصورة مطولة، ثم قال « فلنسأل هذا المفتي المتكلف: هل الحديث صحيح أم لا ؟ ومن أين عرفت صحّته ؟ وإذا كان صحيحاً فهل تؤمن أن الله في السماء ؟ ـ إلى قوله ـ أم تأخذ من الحديث ما وافق هواك ؟ أما نحن فنقول بصحته، ويحيى بن أبي كثير وإن كان مدلساً ولم يصرح بالتحديث في رواية مسلم فقد صرح بالتحديث في رواية أحمد، قلت ( ج 5 ص 148 ): قال: بل قد توبع عليه كما في تحفة الأشراف ».
والجواب: إن الحديث رواه المؤيد بالله في شرح التجريد بإسناده، ولكن آخر الحديث قوله: « إنما الصلاة التسبيح والتحميد وقراءة القرآن »، وعلى هذا فلا يرد علينا ما أورده بقوله: « أم تأخذ من الحديث ما وافق هواك » ؟ لأن الذي وافق هواه ليس عندنا، وهو في مسند أحمد مصرح بأن حديث الصلاة حديث مستقل، وحديث الجارية حديث آخر، ولفظه: عن هلال بن أبي ميمونة أن عطاء بن يسار حدثه بثلاثة أحاديث حفظها عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأوردها وجعل حديث الصلاة هو الآخر في الذكر، انظره في مسند أحمد ( ج 1 ص 448 ) وعلى هذا فلا معنى لاعتباره حديثاً واحداً كما صنع مقبل.
وأما قوله: « هل الحديث صحيح » ؟ فيمكن إثبات صحّته لغيره لا اعتماداً على السند المذكور، بل لتعاضد الروايات على منع الكلام في الصلاة، أي بغير القرآن وأذكارها.
فإن قال: ليس هناك روايات.(1/47)

فالجواب: كيف تنكر ذلك ؟ وقد روى البخاري في جامعه المسمّى بالصحيح ( ج 7 ص 207 ) من النسخة المجردة من الشروح، أي في أواخر الكتاب في كتاب سمّاه « كتاب التوحيد » ولفظه: وقال ابن مسعود عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): « إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ».
وأخرج في أبواب العمل في الصلاة ( ج 2 ص 59 ) من النسخة المجردة، عن زيد بن أرقم: « إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت: ] حافظوا على الصلوات [ الآية، فأمرنا بالسكوت... ».
والسكوت ترك الكلام كله، فهو عام لترك الكلام الذي يخاطب به الناس وترك الكلام الذي ليس كذلك، ولذلك لا يجوز أن تقرأ فيها أشعار العرب لأجل حفظها لا لإسماع الغير، وعلى هذا العموم لا يجوز فيها أن يقال فيها غير القرآن وأذكارها المشروعة فيها التي هي منها، وذلك ليتفرغ المصلي للصلاة، كما في الحديث الذي رواه البخاري في الباب المذكور ( ص 59 ) عن عبدالله: فلما رجعنا من عند النجاشي سلّمنا عليه ـ أي على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ فلم يردّ علينا وقال: « إن في الصلاة شغلاً »، وروى البخاري حديث زيد بن أرقم ـ وأمرنا بالسكوت ـ في كتاب تفسير القرآن من صحيحه في باب ] وقوموا لله قانتين [(1)[39]) ( ج 5، ص 162 ).
__________
(1) 39]) سورة البقرة، الآية: 238.(1/48)

وفي جامع مسلم المسمى صحيح مسلم ( ج 5 ص 26 ) بسنده عن عبدالله حديث « إن في الصلاة شغلاً »، وهناك بالإسناد عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: ] وقوموا لله قانتين [ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وهذا عام لا يخرج منه كلام إلا بدليل وذلك لأن الكلام صوت مسموع، قال الله تعالى: ] فأجره حتى يسمع كلام الله [(1)[40]) أي القرآن الذي يسمع عند تلاوته وهذا معنى الكلام الظاهر المشهور المتبادر عند الإطلاق.
وفي القاموس « الكلام: القول أو ما كان مكتفياً بنفسه »(2)[41]) يعني المفيد في تعبير النحاة.
قال مقبل: « ولكننا نفهمه كما فهمه العلماء وكما دلّ عليه السياق، حيث إنه خاطب ذلك الرجل بقوله: يرحمك الله... » الخ.
والجواب: أنه ـ يعني بالعلماء ـ من وافقه على تفسير الحديث بما يريد، فتأولوا الكلام على أنه مصدر في هذا الموضع بمعنى التكليم كالسلام بمعنى التسليم، وليس عندهم اسماً للقول نفسه بل لتوجيه القول إلى الناس. وقد أجبنا عنه بأن هذا خلاف الظاهر، ولا موجب للعدول عن الظاهر.
وأما السياق فلا يدل على ذلك، لأن النهي عن الكلام يفيد العموم لما وقع في السبب ولغيره، فالسياق ليس إلا ذكراً للسبب، والعام لا يقصر على سببه. إنما يحتج بالسياق لو فسّرنا الحديث بما لا يدخل فيه السبب المذكور في السياق، بحيث يكون ذكر السياق معارضاً له. فأما على تفسير الكلام بمعناه العام فهو لا يعارض السياق ولا يعارضه السياق الذي ذكر فيه السبب، ولذلك ترى العلماء يحتجّون بعمومات القرآن ولا يقصرونه على أسباب النزول.
قال مقبل: « فلا يجوز تكليم الناس وهو في الصلاة، جمعاً بينه وبين الأدلة الواردة في الأذكار في الصلاة ».
__________
(1) 40]) سورة التوبة، الآية 6.
(2) 41]) القاموس المحيط 4 / 174.(1/49)

والجواب: إن العام إذا عارضه الخاص عمل بالخاص فيما تناوله، وبالعام فيما بقي من دون تأويل آخر بجعل العام عبارة عن معنى خاص من أول الأمر. لأن وجود الخاص لا يوجب إلا التخصيص لما تناوله فقط، ولا دلالة فيه على تأويل العام بمعنى خاص، فصرف العام عن ظاهره لمعنى خاص وإبطال عمومه كله، ما تناوله الخاص وما لم يتناوله، هو تأويل بغير حجّة وعدول عن الظاهر بغير دليل. فقول مقبل: « جمعاً بينه وبين الأدلة » يقال فيه: إذا صحت الأدلة وكانت متأخرة عن تحريم الكلام في الصلاة فهي مخصصة لعموم النهي عن الكلام، ولا دلالة فيها على تأويله بما ذكره، بل يعمل بالخاص فيما تناوله وبالعام فيما بقي. وهذا جمع لا إشكال فيه، بل إعمال للدليلين كل واحد في محله بدون تحكّم ولا عدول عن الظاهر.
قال مقبل: « وما ينبغي التنبيه عليه أن الحديث ـ يعني الذي ذكره ـ ليس فيه دليل على بطلان الصلاة » لأن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يأمر معاوية بن الحكم بإعادة صلاته ».
والجواب: إن هذا ليس في الرواية أنه لم يأمره بإعادة صلاته وإنما هو ظن، من حيث الظن أنه لو أمره بإعادة صلاته لذكر في الحديث أو لنقل، وهذا من مقبل دليل على أنه يستجيز الرواية على الظن فلا يوثق به فيما رواه، وقد كانت طريقة العلم أن يقول: إن الحديث لا يدل على وجوب الإعادة، ولا على فساد الصلاة، ويغنيه ذلك عن دعوى أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يأمر معاوية بن الحكم بإعادة الصلاة.(1/50)

10 / 58
ع
En
A+
A-