[حكم المرضّي عنه]
وأما النمط الخامس: وهو فيما يلزم من الإنكار على صاحب هذه المقالة الفاسدة، فقد تقدم مثله في المسألة الأولى، ونزيد هاهنا طرفاً، وهو أن الذاهب إلى الترضية عن معاوية -لعنه الله-، يجوز لعنه، وإنما قلنا ذلك؛ لأنه موالي الفاسق أو الكافر على الخلاف المتقدم، وحكم الموالي حكم الموالَى.
وأما النمط السادس: وهو في هل يجب لعن معاوية -لعنه الله- في حالة؟
فاعلم أن الواجب على كل مسلم التبري من كل عدو لله على الإطلاق، ومعاوية -لعنه الله- أكبر أعداء الله تعالى وأعداء رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أثنى الله على خليله إبراهيم، لما تبرأ من أبيه كما تقدم بيانه؛ ولأن الواجب على كل مكلف موالاة علي عليه السلام، فإذا شرعت التهمة إلى مسلم بموالاة عدو الله معاوية اللعين، ولم يكن لينفي هذه التهمة إلاّ بلعنه لمعاوية، وجب ذلك عليه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلاّ به يجب كوجوبه، وقد تقدم كلام الإمام المنصور بالله عليه السلام في أن الواجب على المسلمين متابعة علي عليه السلام في أفعاله وأقواله، وقد كان عليه السلام يقنت بلعن معاوية، وقد تقدم كلام المنصور بالله فخذه من هناك.(1/176)
وقال الفقيه محمد الديلمي رحمه الله؛ إنه يجب لعن معاوية، وأطلق، ولعله يريد عند التهمة بموالاته، كما ذكرناه، ولكن أصبحنا في دهر كاد يدخل مذهب الحشوية في قلوب شيعته، وتثمل بصائرهم عن فتنة معاوية وبدعته، ولله القائل:
بنو الطمث معروفون في كل ناحية .... ببغضهمُ آل النبي علانية
إذا قيل مولاكم علي توثبوا .... عليّ وقالوا لم تسب معاوية
[الفرق بين التوقف في معاوية وبين التوقف في غيره من المتقدمين لعلي عليه السلام]
وأما النمط السابع: في هل توقف في معاوية من يعتد به من المعتزلة والزيدية، فقد أشرنا إلى مذهبهم أولاً، والمعلوم إجماع الزيدية والمعتزلة على أن معاوية لا يستحق الترضية، وإن اختلفوا في فسقه أو كفره، فالتوقف أمر آخر لم يقل به قائل، وإنما يتوقف في الصحابة لسوابقهم الجميلة في الإسلام، وجهادهم أعداء العزيز العلام، ومحبتهم الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، ووقوع تلك الهفوة التي جُهل لفضلهم قدرها، ولم يُعْلم على التحقيق أمرها، فأما معاوية فهو مغناطيس الشرور والآثام، والمتفرد بركوب القبائح العظام، ولله در الصاحب الكافي حيث قال:
قالت معاوية الطاغي أتلعنه .... فقلت لعنته أحلى من العسل
---(1/177)
المسألة السادسة:
ما تقول أهل الملة المحمدية، صلوات الله على صاحبها، فيمن ذهب إلى أن يزيد الملعون ممن ينبغي التوقف في شأنه، بمعنى أنه لا يجوز لعنه ولا الترضية عنه ؟ هل يعد صاحب هذه المقالة من أهل ملة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أم يكون بها خارجاً ؟ لان المعلوم من دينه صلى الله عليه وآله وسلم البراءة من الفاسقين، والمعلوم قتل يزيد -لعنه الله- للحسين عليه السلام، وأقل أحوال قتل الحسين الفسق، إن لم يكن قاتله كافراً، فما حكم من نسبت إليه هذه المقالة ؟ وما يلزم سامعها من الإنكار ؟
الجواب والله الهادي إلى الصواب: ينحصر في ثلاثة أركان:
الأول: في حكم يزيد.
والثاني: في حكم صاحب هذه المقالة.
والثالث: فيما يلزم من الإنكار على صاحبها.(1/178)
[حكم يزيد]
أما الركن الأول: فحكم يزيد الكفر على الصحيح مما لخّصه علماؤنا رضي الله عنهم.
قال الديلمي رحمه الله تعالى:كان يزيد -لعنه الله تعالى- لا يمسي إلاّ سكراناً، ولا يصبح إلاّ فخوراً شيطاناً، وكان ابن الزبير(1) يذكر ذلك في خطبته، فيقول: السّكّير الخمّير، وكانت أيامه تسمى أيام الشؤم ؛ لأنه أصيب فيها الحسين بن علي عليهما السلام، الذي بكت عليه الأرض و السماء، وقطرت دماً، كما رويناه بالإسناد الصحيح، وحمل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونساءهم إلى الشام كالسبي المجلوب، وقتل من أولاد المهاجرين والأنصار ستة آلاف، وأباح حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأوطيت الخيل حوالي قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحصر بيت الله الحرام وأهله، وحرقه بالنار، فأي حرمة لله لم تُنْقض في أيامه، ولما جيء برأس الحسين عليه السلام مقطوعاً نكّت بالقضيب ثناياه، وتمثل بأبيات ابن الزبَعْرى:
__________________
([1]) - عبدالله بن الزبير بن العوام، أبو خبيب الأسدي، أول مولود من المهاجرين بعد الهجرة، شهد مع خالته الجمل ، بويع له سنة 64هـ بعد معاوية بن يزيد، وتخلّف عن بيعته ابن عباس وابن الحنفية، ثم حصره الحجاج بمكة، وقتل في جمادى سنة 73هـ وهي عمره. أهـ من لوامع الأنوار3/121.(1/179)
ليتَ أشيْاخي ببدرٍ شهدوا .... جزعَ الخزرج من وقع الأسلْ
فأهلّوا واستهلّوا فرحاً .... ثم قالوا يا يزيد لا شللْ
لستُ من عتبة إنْ لم أنتقم .... من بني أحمدَ ماكان فعل(2)
_____________
([2]) - قال ابن حابس رحمه الله تعالى في كتاب الإيضاح شرح المصباح - شرح الثلاثين المسألة - ص343م ط1:
وأقبل [أي : يزيد بن معاوية] ينكِّت ثنايا الحسين عليه السلام؛ وهو يقول:
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا .... جزع الخزرج من وقع الأسلْ
فأهلّوا واستهلّوا فرحاً .... ثم قالوا يايزيدُ لا شللْ
فجزيناهم ببدر مثلها .... وأقمْنا مَيْلَ بدر فاعتدلْ
لستُ من شيخيَّ إنْ لم أنتقم .... من بني أحمدَ ما كان فعلْ
وهذه الأبيات قال بعضها ابن الزبعرى شاعر قريش يوم أحد، وزاد يزيد البعض من أبياتها، فلابن الزبعرى الأول والثالث، وليزيد الثاني والرابع، وكلامه هذا فيه أوْفى دليل على كفره، لأنه جعل ما وقع من ذلك انتقاماً بما فعله رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم، انتهى.(1/180)