[حكم من أجاز الترضي عن معاوية]
وأما النمط الثاني: وهو في حكم من ذهب إلى جواز الترضية عن معاوية -لعنه الله-، فهذا حكمه حكم من والاه، فالواجب على كل مسلم البراءة من الفساق والكفار، قال الله تعالى في معرض الثناء على إبراهيم: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ(114)}[التوبة] فوصف الله تعالى إبراهيم بالحلم لتبريه من أبيه حين ظهر له أنه عدو لله، أفلا نتأدب بآداب الله، ونقتدي بأنبياء الله؟!، هذا خليل الله تبرأ من أبيه، لما رآه عدواً لله، أفلا نتبرأ من عدوٍ لله لا نسب بيننا وبينه.(1/171)


ومن الحجة القاطعة على من والى معاوية -لعنه الله- ويرضي عنه قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة:22] الآية فنفى الله بهذه الآية إيمان من والى محادِّيه، ولو من القرابة القريبة، ومن حارب إمام الحق فقد حاد الله، بدليل أنه لا يجوز أن يثبت بأحد اللفظين، وينفى بالآخر، فلا يقال هو محارب لله غير محاد، ولا محاد لله غير محارب، بل يعد من قال ذلك مناقضاً جارياً مجرى من قال: هو محارب لله غير محارب، محاد لله غير محاد، فحصل لنا أن من يرضّي عن معاوية، لعنه الله، فقد خرج عن الإيمان، لموادة عدو الله؛ لأن الترضية مودة،بل هي ثمرة المودة، فمن أراد أن يخرج عن اسم الإيمان، بنص المحكم من القرآن، فليرضّ عن معاوية ويواده.(1/172)


خيالات: قالوا معاوية كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وختنه، وصاحبه، فكيف يجوز التبري منه؟
قلنا: أما كونه كاتباً، فليس كتابة الوحي عاصمة للكاتب عن الخطأ والمعصية، أولم يكن عبد الله بن أبي سرح كاتباً للوحي؟ حتى نزل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)}[المؤمنون] حتى قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا}[المؤمنون:14] فقال عبد الله بن أبي سرح: فتبارك الله أحسن الخالقين، سبق لسانه بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هكذا أنزلت، فاكتب، فارتد ابن أبي سرح، وكفر، ولحق بمكة، وقال: إن كان محمد نبياً فهو نبي، قال: لأن القرآن إن كان نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقد نزل عليه بزعمه، وإن كان من تلقاء نفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فقد جاءَ به من تلقاء نفسه، فلو كانت الكتابة تعصم صاحبها من الكفر، عصمت ابن أبي سرح.
وأما كونه صاحباً لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فصحبته من جنس صحبة عبدالله بن أبي سرح، وكذلك صحبة أبيه.
وأما كونه ختناً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمكان أم حبيبة، رحمها الله، فقد كانت تحت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، وأخوها يهودي، فأوصت له، فذلك أصل جواز الوصية لأهل الذمة.(1/173)


وكونه خالاً للمؤمنين فلا تعصمه من النار؛ لأن ولادة النبوة أبلغ في باب الحرمة من خؤولة الإيمان، فلم تعصم ولد نوح ولادته لما عصى الله سبحانه وتعالى، ولله من قال:
يا أمة ملك الضلال زمامها .... فتهالكت في خالها الملعون
[بحث في أن المرضّي عن معاوية يخطّئُ علياً عليه السلام]
وأما النمط الثالث: وهو في أنه لا واسطة بين الترضية عن معاوية، والتخطية لعلي عليه السلام، فلأنا قد بينا حكم معاوية -لعنه الله- -، والمرضّي عنه لا يخلو إما أن يرضّي عنه واعتقاده فيه أنه فاسق بحرب علي عليه السلام، ولما سبق من الأدلة، أو غير معتقد لذلك.
* فإن كان الأول، فقد أوقع الترضية في غير محلها، وهي لا تكون إلاّ للمؤمنين، وإلاّ لزم من ذلك جواز الترضية على الشيطان، والترحم على عباد الأوثان، وهذا مما لم يقل به أحد.
* ولم يبق إلا أن الذي يرضي على معاوية، معتقد أنه أهل للترضية، منزه له عن القبائح في أفعاله وأقواله، ومن ذهب إلى هذا فقد اعتقد في علي الخطأ لمحاربة من لم يصدر منه قبيح على الإطلاق بزعم صاحب هذه المقالة، وهل هذا إلاّ نفس الضلالة والتزام الجهالة؟!(1/174)


وأما النمط الرابع: فقد دخل بيانه في النمط الثالث، حيث كان المرضي عن معاوية-لعنه الله-، لا يسلم من اعتقاد الخطأ في أمير المؤمنين عليه السلام، ونزيده بياناً فنقول:
لا يخلو علي ومعاوية في الحروب التي كانت بينهما:
* إما أن يكونا مصيبين، * أو مخطئين، * أو أحدهما مخطئ.
لا جائز أن يكونا مصيبين؛ لأنه كان يلزم أن يكون القاتل والمقتول في الجنة، كما قالت عائشة يوم الجمل، وهذا ظاهر السقوط.
ولا جائز أن يكونا مخطئين؛ لأن المعلوم بغي إحدى الفئتين، لحديث مقتل عمار رضي الله عنه، وإجماع الأمة، أن أحدهما كان إماماً، والآخر باغياً، ولو كان الخطأ شاملاً للكل، لم تكن إحدى الفئتين بالبغي أولى من الأخرى.
ولم يبقَ إلا أن يكون أحدهما باغياً والآخر مبغياً عليه، وقد بينا أن الباغي من خرج على إمام الحق، فمن كان هو الإمام المحق، كان البغي عليه، فليتأمل المتأمل من الإمام، ويفرق بين الخَلْف والأمام، أولم فصمي صمام، فإن داءَهُ عقام.(1/175)

35 / 51
ع
En
A+
A-