قال الإمام يحيى عليه السلام: فَغَضَبُ فاطمة لذلك، وإنما طلب أبو بكر الحق، فإذا غضبت لأجله، فالحق أغضبها، فلا حرج على أبي بكر"، هذا معنى كلام الإمام يحيى(56) عليه السلام، ولقائل أن يقول: ما الفرق بين الصورتين، غضبها لطلب أبي بكر الحق، وغضبها لطلب علي الحق، لو سلمنا صحة الرواية، وحاشا له عن غضبها، وعن صحة الرواية، وهل فرق بين غضبها لتمام الشهادة، وغضبها بالنكاح لواحدة واثنتين عليها سلام الله؟ فلم أطلق الإمام إسم الهفوة على علي عليه السلام، وحاشا عنها أبا بكر؟ وهلا كان العكس أليق لمكان العصمة في حق المعصوم؟ وإمكان تأويل الحديث المذكور على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وبطلان أبي بكر عن العصمة فيما يأتي ويذر، وقد قيل: إن علياً عليه السلام كان هو الشاهد لفاطمة، والحسن والحسين وأم أيمن، فقد تم نصاب الشهادة، وشهادة ذوي الأرحام مقبولة، وإن كانت المسألة خلافية، فقد بان من مذهب أبي بكر قبول شهادة ذوي الأرحام، لما ظهر منه من الإعتذار بزيادة رجل مع الرجل، فقد قبل علياً عليه السلام في الشهادة، فما باله لم يقبل شهادة الحسن والحسين عليهما السلام لأمهما عليها السلام؟
قالوا: لم يعْلم أن الحسنين كانا شاهدين، فمن أين هذه الرواية؟ ومن صاحبها؟
________________
([56]) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/78:
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع): وحكى الإمام عز الدين، عن الإمام يحيى [بن حمزة](ع)، نقلاً من كتابه المسمى التحقيق في الإكفار والتفسيق، ما نصه: والمختار عندنا أمران:
الأول: أن الذي ادعت فاطمة ـ عليها السلام ـ كان حقاً.
ثم قال ما حاصله: أنه شَهد لها أمير المؤمنين (ع)، وأم أيمن، فقال أبو بكر: رجل مع رجل، أو امرأة مع امرأة.
ثم قال أبو بكر: إن الله إذا أطعم نبيه طعمة فهي للخليفة من بعده.
فلما أقر بالملك لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإقراره مقبول، قالت: ويحك يا ابن أبي قحافة! ترث أباك ولا أرث أبي.
فاحتج بالخبر.
ثم ذكر إعراضها عنه، ورجوعها إلى قبر أبيها ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وتمثلها بالأبيات المشهورة:
قد كان بعدك أنباء وهينمة .... لو كنت حاضرها لم تَكْثُرِ الخُطَبُ
...إلخ.
وهذه المناظرة ظاهرة لايمكن إنكارها.
ثم قال: الأمر الثاني: أنها صادقة فيما ادعته؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بشرها بالجنة، وأن منزلها ومنزل أمير المؤمنين حذاء منزله.
وساق أحاديث في شأنها وكمالها، وأحاديث ((فاطمة مني، يريبني ما يريبها، ويؤذيني ما يؤذيها))، فكيف لاتكون صادقة في تلك الدعوى، وقد شهد بصدقها أمير المؤمنين، ولا يشهد إلا بالحق، ولا يقول إلا الحق؟!.
انتهى باختصار.
قلت: وهذا تصريح بعصمة الوصي، وحجية قوله ـ صلوات الله عليه ـ كما قضت به النصوص النبوية، والحمد لله.
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع): وقد روي عن الإمام زيد بن علي، وقد سأله سائل عن فاطمة بعد أبيها ـ صلوات الله عليهم ـ وكيف كان حالها مع القوم؟.
فأجاب ـ عليه السلام ـ: أما سمعت قول الذي عبر عما في نفسها بقوله:
غداة تنادي يابتا ما تمزقت .... ثيابك حتى أزمع القوم بالغدر
وحتى ارتكبنا بالمذلة والأذى .... وليس لأحرار على الذل من صبر
ولقد أجاد الشاعر، وصدق.
فهو رجوع منه عما في الشامل.
قلت: يعني من تصويب الحكم.
قال: فهذا رجوع إلى قول أسلافه الطاهرين.
قلت: وهذا يدل على اطلاع الإمام على تأخر كلام الإمام يحيى (ع) هذا.
إلى قوله أيده الله تعالى:
قال الإمام: وقد عرفت كلام الإمام يحيى (ع) في هذين المهمين، ورجوعه إلى مقالة أسلافه الذين لايقال لهم إلا ما قاله يوسف الصديق (ع): {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}[يوسف:38]، وما حكى الله في آية الاجتباء {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، انتهى المراد، انتهى من اللوامع...(1/131)
قلنا: رواها الأمير الكبير العلامة صلاح ابن أمير المؤمنين في كتاب "الكواكب" وهو قدس الله روحه الثقة الأمين، الصادق في روايته، الناقل لها عن آبائه الأعلام، وسلفه الأئمة الكرام، ومنارج الإعتذارات واسعة، لكن إنما يوجب التأويل لمثل هذه الأمور حين ترد ناقضة للأدلة، وليس في خطأ أبي بكر ما ينقض دليلاً، لا من كتاب ولا سنة، حيث كان الخطأ جائزاً عليه.
وأما ما روي من هذه الأمور في حق المعصوم، فإنه متأول على أحسن وجوه التأويل؛ لأن في خلاف تأويله نقض أدلة العصمة، فلا جرم بكون التأويل في حق علي عليه السلام لازماً، وفي حق أبي بكر غير لازم، على أنا لو سلمنا صحة الحديث الذي رواه أبو بكر وهو قوله: ((إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة))، فهو لا يسلم من الخطأ في نزع فدك من يد فاطمة عليها السلام لوجهين:
أولهما: أن قبضه لفدك وصرفه لها في وجوه الصرف مبني على أصل فاسد عندنا، وما بني على الفاسد فهو فاسد؛ لأن أبابكر معتقد الإمامة، وأن أخذه لفدك من فروعها، وهذا مما لا تراه العترة الطاهرة الهادية، وأتباعها الفرقة المهدية الناجية.(1/132)
وأما الوجه الثاني: فهو أن فدكاً لم يخلفها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا هي من تركته؛ لأنه كان قد نحلها ابنته فاطمة، فهي مما قد ملكته ملكاً شرعياً، فكيف ساغ له الإحتجاج بهذا الخبر في أمر فدك وحالها ما قلناه؟
وعلى كل حال فهو غير سالم من الوقوع في الخطأ بنزعه لفدك من يد البتول عليها السلام كيفما دارت القضية، فنسأل الله التثبت والهداية.
وأما تأويل الحديث المتقدم ذكره، ولأجله انتهينا إلى هذه الغاية فتأويل ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من وجهين:
أولهما: أنا لا نسلم صحة هذا الحديث المشار إليه؛ لأن ظاهره خالف كتاب الله عز وجل وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما روي عني، فأعرضوه على كتاب الله تعالى، فإن كان موافقاً له، فهو مني وأنا قلته، وإن لم يوافقه، فليس مني، ولم أقله))، فعرضنا ذلك على قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}[النساء:3] فلم يوافق القرآن، فعلمنا أنه غير صحيح، وأنه قضى بغضب الله ورسوله على علي عليه السلام وقد تقررت عصمته، فلا يجوز إغضاب الله ورسوله.(1/133)
الوجه الثاني: من تأويل الخبر المذكور أن يكون المتكلم في زواجة علي عليه السلام بني هشام بن المغيرة، ولم يظهر أن الوصي عليه السلام استأذن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- في الزواجة، إنما المستأذن بنو هشام ابن المغيرة، فلعل خواطرهم حدثتهم بذلك، وأرادوا جرح خاطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد روي في آخر هذا الحديث قال عليه السلام: ((ولا يجمع الله بين بنت نبيه وبنت عدوه))، ومن كان موصوفاً بعداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغير بعيد أن يكون حريصاً على جرح صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا وجه لا غبار عليه.
قالوا: إن في تصحيح هذا التأويل إبطال، أو ليس قد قلتم أن ظاهر هذا الحديث يخالف القرآن؟! فلا يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم تكلم بهذا الحديث أصلاً، لمناقضته للقرآن في جواز النكاح بأكثر من واحدة، فما معنى هذا؟!(1/134)
قلنا: إنما ذكرنا هذا التأويل لكون الحديث من صحيح مسلم، وقد كثر الفقهاء في الصحاح، وادعوا أن رجلاً لو حلف بطلاق امرأته أن الذي في الصحاح مما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأفتوا ببقاء نكاحه، لصدق حلفه، فكان هذا التأويل لأجل ذلك، ولايلزم مما قلناه مناقضة الحديث للقرآن؛ لأنه لو صح لقلنا هذا خاص لفاطمة عليها السلام أنه لا يجوز لعلي عليه السلام الزواجة عليها، كما خُص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بزواجة تسع من الحرائر، فحسن هذا التأويل.
قالوا: ما أنكرتم أن تكون هذه المعصية صغيرة، والعصمة لا تمنع من وقوع الصغائر، ويكون المراد بقول الإمام عليه السلام: "هذه هفوة من أبي الحسن" يعني صغيرة من الهفوات.
قلنا: فارضوا منا مثل هذا في حق أبي بكر، فنقول ما أنكرتم أن يكون أبوبكر عاصياً في قبضه نحلة فاطمة، ورده شاهدها المعصوم، وأم أيمن رحمهما الله تعالى.
قالوا: إنه يمكن تأويل ذلك.
قلنا: ويمكن تأويل هذا.
قالوا: إن الإمام قد قال: "إن صح هذا الحديث، كانت هفوة من أبي الحسن"، فقد احترز بقوله: "إن صح".(1/135)