الفائدة السادسة من أصل المسألة: وهي هل يعتد بمن في جانب الإمامية من أهل البيت في حصر مسألة الإمامة في أولاد السبطين.
واعلم: أن خلاف الإمامية ومن في جانبها لا يعتد به في هذه المسألة، وإنما كان الأمر كذلك لوجهين:
أولهما: أن مذهب الإمامية حادث في زمن المأمون بن هارون، قال السيد الدامغاني في رسالته المسماة "بالجوهرة الخالصة عن الشوائب في العقائد المنقومة على جميع المذاهب": "إن أول من وضع مذهب الإمامية أبوالدوانيق، لما أثخن القتل في أولاد الحسن، وعرف أنه لا يزال يخرج عليه من العلوية قائم بالخلافة، ورأى جماعةً من الشيعة تذكر قيام القائم بالإمامة، وتعتقد أن إمامها منصوص عليه، وهو غائب عنها، وهم الكيسَانية، فلاحت له الحيلة، فأعملها في جماعة من أصحابه، وبعث إلى الأقطار، وأمر ببث هذا المذهب في جهال الشيعة، وهم لا يشعرون، وصنع له نسخةً، ووضعها مع بعض أصحابه، وأمرهم بالتشيع وإظهاره". انتهى(1/121)


وقيل: مذهب الإمامية وضعه المأمون، ينفر الناس من الخروج مع الأئمة من أولاد الحسن، وجعله شبهة ليعميهم، وقال المأمون مفتخراً:"رأيي في صرف الناس عن محبة أولاد الحسن خير من رأي آبائي"، معناه: أن رأي آبائه كان حصد شجرة النبوة، وإطفاء نورهم، وأبى الله إلاّ ظهوره، ولهذا لا يعتد بخلاف مَنْ في جانب الإمامية من العترة؛ لأن إجماع أهل البيت عليهم السلام سابق لمذهب الإمامية، وابتداؤه على اختلاف الروايتين سنة ست وثلاثين ومائة، وفيها ابتداءُ دولة المأمون، فقد حصل بهذا أن مذهب الإمامية حادث، وأن إجماع العترة سابق له، والحمد لله، فلا اعتراض والحال هذه.
وأما الوجه الثاني: وهو ما يعتمده أصحابنا في كتبهم الكلامية في هذه المسألة، وهو أن الأمة افترقت في جواز الإمامة في أولاد البطنين على قولين، وقد بطل أحدهما، وهو قول الإمامية فيتعين الحق في قول الآخرين، إذ لو لم يكن كذلك لكان الحق قد خرج عن أيدي الأمة، وخروج الحق عن أيدي الأمة لا يجوز، وهذه دلالة عقلية قاطعة، وليست من باب الإجماع، ذكره سيدنا فخرالدين في كتابه "جوهرة الغواص"، وذكره أيضاً الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى حنش في غياصته.
الفائدة السابعة: وبها يتم الجواب عن هذه المسألة، فقد قدمنا في الفائدة التي قبلها صحة سبق إجماع العترة لمذهب الإمامية، وأن مذهبها محدث ضعيف، ولما سمعه جعفر الصادق عليه السلام أنكره على الشيعة فأبوا، وقالوا: إن جعفراً ينكر علينا هذا تقية على نفسه.(1/122)


المسألة الرابعة:
[بحث في فاطمة عليها السلام]
ماذا تراه العترة النبوية فيمن فضل عائشة على فاطمة عليها السلام في باب العلم، وفُهِم منه تجهيل البتول صلوات الله عليها؟ هل يجوز له الإقدام على هذا، والقطع من دون مخرج أم لا؟.
الجواب والله الهادي إلى الصواب: أنه لا ينبغي لمسلم أن يقطع على أن عائشة أكثر علماً من فاطمة عليها السلام، لأن فاطمة وإن لم تظهر الرواية الواسعة عن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم يجوز أن تكون أعلم من عائشة، يزيده بياناً أن فاطمة عليها السلام لم يُثْنَ لها الوساد بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم بل كانت أيام حياتها بعده صلى الله عليه وآله وسلم سبعين يوماً وليلة، رواه السيد أبو العباس الحسني في كتاب "المصابيح"، وهي في هذه الأيام اليسيرة متجرعة للمصائب، مرهقة بالنوائب، اجتمع عليها في هذه الأيام حزن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، ونزع فدك من يدها، وانكارهم لها حق الوراثة والنحلة، وهجومهم دارها، والتوعد بتحريقه، وإخراجهم لعلي عليه السلام مجروراً من دار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وردهم لشهادة شهودها، إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة، ثم اتصل بعد ذلك مرض الوفاة المفضية بها إلى دار الكرامة، فلا ينبغي لمسلم أن يقطع عليها بجهل علوم الشريعة، وكيف وهي درة أصدافها، ورضيعة أخلافها، وعقيلة أشرافها، من عبد منافها؟(1/123)


كما أن عائشة لو كانت هي الهالكة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لماتت وهي عالمة بما روي عنها من الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن لأحد أن يقطع عليها بجهل، فأولى منها وأحرى بضعة المصطفى، وأم الأئمة الخلفاء.
ولا يلزم على هذا التجويز في غير البتول، فيقال: يلزم على هذا أن كل من مات مجهول الحال يجوز أن يكون عالماً مبرزاً؛ لأنّا إنما جوزنا ما ذكرناه في حق فاطمة عليها السلام حين كان علم الصحابة إنما هو رواية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والحفظ لما نفث به من الحكمة، وهذا مجوَّز في حق فاطمة عليها السلام، لكثرة مجالستها لأبيها صلى الله عليه وآله وسلم ومجالستها لعلي عليه السلام وهو باب مدينة العلم، فحصل من هذا كله صحة التجويز المانع من القطع على أن غيرها أعلم منها. هذا ولا ننكر أن عائشة مختصة بأشياء روتها عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمكان الزوجية، كقولها: قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض نسائه وهو صائم، فقيل لها: وهل هي إلاّ أنت؟ فضحكت، ونحو: ((تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء))، ونحو: ((حتيه، ثم اقرصيه، ثم لا يضرك أثره))، وأمثال هذه الأشياء من أحكام الجماع والحيض والنفاس والتقبيل لشهوة، ولا شك أن للزوجات من الإختصاص بهذه الأشياء ما ليس للبنات،(1/124)


ثم إن فاطمة عليها السلام كانت ترجع في مثل هذه الأحكام إلى بحر العلم الزخّار الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم، وعلي بابها، فمن أراد المدينة، فليأت الباب))(42)، وقد كانت صلوات الله عليها محافظة على أنواع الطاعة، سابقة إلى محاسن الخيرات ومجالسة سيد السادات.
وكنت جليس قعقاع ابن سورٍ .... ولن يشقى لقعقاع جليس
وهذه المسألة مما لا تكليف علينا فيها؛ لكنها هاجت بالنواصب لوعة العدوان، وغلت في صدورهم مراجل الشنآن، فأرادوا نقص البتول الأمينة، ووصم الجوهرة الفائقة الثمينة.
لا أبالي أنبَّ بالحزن تيسٌ .... أم جفاني بظهر غيب لئِيمُ
وإذ قد نجز الغرض من الجواب على النواصب، فنحن نتكلم في أربعة وجوه:
* الأول: في طرف من الإشارة إلى فضل البتول.....
* الثاني: في الدليل على عصمتها.
* والثالث: في طرف من أخبارها.
* والرابع: في حكم من نسب إليها ما يصمها، وفرط منه ما يُؤْذِن بتجهيلها.
_____________
([42]) - قال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج:
أخرجه الحاكم عن جابر وعن ابن عباس، والخطيب عن ابن عباس، وابن عدي والعقيلي عن ابن عباس، ورواه الكلابي عن ابن عباس، وأخرجه ابن المغازلي عن ابن عباس، وعن جابر، وعن علي، بطرق أخرى، وفيه: (كذب من زعم أنه يصل المدينة إلاَّ من قِبَل الباب).
وصححه أبو عبدالله الحاكم ومحمد بن جرير الطبري، عن ابن الأمير محمد بن إسماعيل، والكنجي عن علي، ونحوه عن جابر، وصدره عن ابن عباس كما يأتي.
وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس بلفظ: ((فليأته من بابه)).
وأخرجه ابن المغازلي بلفظ: ((ولا تؤتى البيوت إلاَّ من أبوابها))، عن علي.
وأخرج الترمذي، وأبو نعيم، والكنجي، وابن المغازلي: ((أنا دار الحكمة وعلي بابها))، عن علي عليه السلام.
وزاد ابن المغازلي: ((فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها))، أخرجه ـ أيضاً ـ عن ابن عباس بالزيادة بلفظ: ((فمن أراد الحكمة فليأت الباب)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي باب علمي ومبيِّن لأمتي ما أرسلت به من بعدي"...إلخ)). أخرجه الديلمي.
وروى في (المحيط) عن الإمام أبي طالب رفعه بطريقه إلى ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أقضى أمتي بكتاب الله علي، فمن أحبني فليحبه، فإن العبد لا ينال ولا يتي إلاَّ بحب علي)).
وأخرج الخطيب وابن المغازلي عن أنس: ((أنا وهذا ـ يعني علياً ـ حُجَّة على أمتي يوم القيامة)). وقال: (أنا الصديق الأكبر). أخرجه ابن قتيبة عن معاذة العدوية.
وقال علي: (أنا عبدالله، وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلاَّ كاذب، صليت قبل الناس سبع سنين)، أخرجه الحاكم عن عبدالله الأسدي عن علي، وقال: صحيح على شرط الشيخين. تمت تفريج.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي عيبة علمي))، أخرجه ابن عدي عن ابن عباس.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب)) أخرجه الديلمي عن سلمان.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي أعلم الناس بالله...إلخ)) أخرجه أبو نعيم، عن علي عليه السلام، انتهى من التخريج.
وهو في المستدرك على الصحيحين 3/138 برقم 4639،المعجم الكبير 11/65 برقم 11061...(1/125)

25 / 51
ع
En
A+
A-