وأما الآية الأخرى، فإنّا لا ننكر أن تسمى زوجة الإنسان أهلاً، ولكن على المجاز لا الحقيقة، لأن أهليتها معرضة للزوال، بإيقاع الطلاق وأمثاله، مما يوجب بطلان عقد النكاح، وفي اللغة الحقيقة والمجاز، وهذا مما لا ينكر، وعلى هذا لفظة الأخوة في الدين مجازاً، وعلى هذا جرت العادة بين الخلف والسلف في لفظ الولد والوالد بقول الصغير للكبير: أنت لي والد، والكبير للصغير: أنت لي ولد، وهذا من باب المجاز.
وفي الحديث عليّ والد المسلمين رواه الديلمي، والمعنى أنه عليه السلام عظيم الشفقة عليهم، فكأنه لهم كالوالد.
ومن ذلك الحديث المشهور: ((سلمان منا أهل البيت))، المعنى أن مودته وصحبته أدخلاه مدخلاً خاصاً، فكأنه من جملة الأهل، وعليه [قول الكميت]:
كانت مودة سلمان له رحماً .... ولم يكن بين نوح وابنه رحم(1/111)


وأما قول أبي بكر: "وليت عليهم خير أهلي"، فمعناه خير قرابتي، لأن عدياً وتيماً أهل، فمن أين لنشوان انه أراد خير من اتبعني وأطاعني؟ ثم لو سلمنا ذلك، كان مجازاً كما ذكرنا مثله في حديث سلمان لما كانت مودة عمر لأبي بكر عظيمة أكيدة، كان كأنه من أهله، وهذا مجاز، وأمثاله معروفة، وكذا قوله تعالى لنوح عليه السلام: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}[هود:46] معناه يرجع إلى ما ذكرناه من المجازات لما خالف ابن نوح أباه في دينه خرج عن مودته ومحبته، وقد قال شاعرهم:
تعصي الإله و[أنت] تزعم حبّه .... إنّ المحبَّ لمن يحبُ مطيع
فكان قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}[هود:46] مجاز، بمعنى ليس من أهل مودتك على الحقيقة، ولهذا قال نوح عليه السلام: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}[هود:45]، معناه من قرابتي، فكان الجواب غير مطابق لكلام نوح؛ لأنه لم يرد من أهل طاعتي وأتباعي، إذ كان هذا كذب، والكذب لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام، بل أراد من قرابتي الخاصة، فأجيب أن القرابة قرابة الدين لا قرابة النسب، ويلزم نشوان أحد أمرين في قول نوح: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}[هود:45] على زعمه أن الأهل الأتباع:(1/112)


* إمّا الكذب، والأنبياء معصومون عن ذلك.
* وإما الجهل بأن لفظة الأهل لا تطلق إلاّ على الأتباع، ولا محيص من أحدهما.
ويؤيد ما ذهبنا إليه من أن الأهل القرابة ما ورد في القرآن من ذلك في غير مكان، ومن ذلك قول موسى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29) هارون أخي}[طه:29-30]، وقال في أيوب عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ}[ص:43] وقال تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(133) إذ نجيناه وأهله}[الصافات:134]، وقال تعالى لنوح عليه السلام: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ}[هود:40]، وفيه {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76) }[الصافات] وعلى هذا يجري الكلام في الرد على نشوان في لفظ الآل.
ومن افترائه العظيم وتزويره إنكاره أن يكون لفظ الآل قرابة الرجل، واحتج بالآية الشريفة {أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46) }[غافر]، وبقول عبد المطلب:
نحن آل الله في بلدته .... لم نزل ذاك على عهد إبرهيم
ولنا على هذا جوابان أولهما من باب المعارضة، والثاني من باب الإفادة وإبطال هذا الخيال.(1/113)


الجواب الأول: ما ظهر واشتهر ورواه المؤالف والمخالف من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حرمت الصدقة على محمد وعلى آل محمد))(18)، فإن قال نشوان: آله أتباعه، لزمهم أن تكون الصدقة محرمة عليهم لا يجوز لهم تناولها، والمعلوم من الشريعة جواز الزكاة للأتباع الفقراء، وإن قال: بل آله ذريته، فهذا ما قلناه، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
الجواب الثاني: ما أشرنا إليه من قبل أن هذا وارد على سبيل المجاز، فكأن أتباع فرعون لمَّا لزموا طريقته وصرّفهم في إرادته وصرفهم إلى عبادته، صاروا كأنهم أولاده، يحكم عليهم بما أراد، وينفذ إليهم ما أحب، وهذا ظاهر البيان، واضح البرهان، ومجازات القرآن أكثر من أن تحصى في هذا المختصر.
وأما شعر عبد المطلب، فهو على هذا الأسلوب، وأوردوا عليه ما لايوصف من الشواهد، ولما كانت مكة بيت الله الحرام، وهم فيها على بقية من دين خليله عليه السلام، فأفرع بيته في قالب البراعة المجازية لا جرم أنه كان من أهلها، بيد أنه عبدالمطلب وأبوه.
عمرو العلا هشَم الثريد لقومه .... ورجال مكة مسنتون عجاف
__________________
([18]) - روي بألفاظ متقاربة في صحيح مسلم 2/751 برقم 1069، سنن الدارمي 1/451 برقم 1591، أحمد بن حنبل 1/200 برقم 1723، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 8/89 برقم 3294، صحيح ابن خزيمة 4/59 برقم 2347، السنن الكبرى 5/194 برقم 8645، المعجم الكبير 3/76 برقم 2710(1/114)


وأراد بالمجاز إنا كآل الله عز وجل، لو كان له آل تعالى عن ذلك الله علواً كبيراً، بحمايته لنا، ومدافعته عنا، وجعله لنا بلداً حرماً، وبيتاً محجوجاً، {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ}[ابراهيم:37] فاستجاب الله دعوة خليله، وخصهم من فضله بجميله وجليله.
نعم: وإيراد الشواهد على أن لفظ "الآل" أولاد الرجل وذريته مما يسمج إيراده لظهوره وكثرته وانتشار الأمر وشهرته، شعراً:
وهبني قلت هذا الصبح ليل .... أيعمى العَالمون عن الضياء
ومكابرة نشوان لا يعتد بها ذوو الألباب، وهي لاحقة بصرير الباب، وطنين الذباب.
وأما نقيقه بالبيتين المشهورين، فلسنا من هذيانه بجازعين، ولامن ثرثرة لسانه بمروّعين، شهد لنا التنزيل، واعتزى إلى آبائنا جبريل، فقال عليه السلام في خبر الكسا: (وأنا منكم)، وجاءت أم سلمة لتدخل رأسها، وقالت: (وأنا منكم يا رسول الله)، فقال: ((لستِ منا وإنكِ لعلى خير))(23)، فسميت أم سلمة الخير، فأين يتاه بابن سعيد؟
ما يضر البحر أمسى زاخراً .... أن رمى فيه سفيه بحجر
________________
([23]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/55:
وقد لخص البحث في أخبار الكساء من هذا الوجه الإمام الناصر الأخير عبدالله بن الحسن عليه السلام في الأنموذج الخطير، ولفظه: وقد دلّ الحديث على تخصيص علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وإخراج غيرهم، من الموجودين في ذلك الوقت من وجوه:
الأول: أنه دعاهم دون غيرهم، ولو شاركهم غيرهم في كونه من أهل البيت عليهم السلام، لدعاه.
الثاني: اشتماله عليهم بالكساء دون غيرهم ليكون بياناً بالفعل مع القول.
الثالث: أنه قال: ((اللهم إن هؤلاء أهل بيتي)) مؤكداً للحكم بإنّ.
الرابع: تعريف المسند إليه بالإشارة الذي يفيد تمييزه أكمل تمييز كما يعرفه علماء المعاني.
قلت: وهذه الصيغة من طرق الحصر، كما صرح به أهل المعاني والبيان وأصول الفقه، وقد وردت هذه الصيغة في غير هذا المقام، لما نزل قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا}[أل عمران:61] الآية، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: ((اللهم هؤلاء أهلي)) أخرجه الحاكم عن عامر بن سعد عن أبيه وقال: حديث صحيح، ورواه عن سعد قال: لما نزلت هذه الآية ((ندع)) دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)) أخرجه مسلم والترمذي كلاهما في الفضائل أفاده في الإقبال عن كتاب كشف المناهج قال للعلامة صدر الدين محمد بن إبراهيم السلمي الشافعي انتهى.
قال: الخامس: أنه أتى بالجملة مكررة للتأكيد ليرفع توهم دخول الغير، كما هو شأن التأكيد اللفظي عند أهل اللغة.
السادس: دفعه لأم سلمة رضي الله عنها بأن قال لها: ((مكانك أنت إلى خير)).
وفي بعض الأخبار: ((لست من أهل البيت أنت من أزواج النبي)) صلى الله عليه وآله وسلم، وفي بعضها ((أنت ممن أنت منه)) دل بإخراجها على خروج جميع الزوجات، وأيضاً علل إخراجها بأنها من الزوجات.[راجع التحف شرح الزلف ط3 /355].
فإن قلت: إن في بعض الأخبار عن أم سلمة قالت: يارسول الله ألست من أهل البيت؟ قال: بلى فادخلي في الكساء فدخلت.
قلت: الجواب عنه من وجوه ثلاثة:
الأول: أن روايات دفعها أكثر وأصرح، فكانت أولى وأرجح.
الثاني: أنه لم يشر إليها معهم بقوله: ((هؤلاء أهل بيتي)) ولم يدعها وأيضاً قالت: فدخلت بعدما قضى دعاءه لابن عمه، وابنيه وفاطمة، فعَرفَتْ أن دخولها كان على جهة التبرك فقط.
الثالث: أنه ما أدخلها إلا على وجه الإيناس، وتجنباً للإيحاش، بدليل أنه ما أدخلها إلا بعد أن سألته، ثم إن في الروايات الأُخر مثل رواية أبي الحمراء وغيره أنه كان يأتي إلى باب علي وفاطمة ثمانية عشر شهراً أو تسعة أشهر ويتلو الآية، ولم يكن في البيت أم سلمة ولاغيرها وهكذا ماقاله في حق واثله بن الأسقع، فظهر أنه لم يرد إلا الإيناس.
قلت كما ورد من نحو ((سلمان منا أهل البيت))، ((وشيعتنا منا)) مما يعلم قطعاً أن ليس المراد في الأحكام الخاصة على الحقيقة وإنما هو في الاتصال والانضمام.
قال الإمام رضي الله عنه: السابع: أنه لو اريد غيرهم في الآية لما دعاهم وحدهم ولما أشار إليهم وحدهم؛ بل يكون ذلك الفعل والحكم بأنهم أهل البيت وحدهم تلبيساً وخيانة في التبليغ وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فيقطع حينئذ مع هذه الوجوه بخروج غيرهم عن أن يكون من أهل البيت سواء كن الزوجات او الأقارب كبني العم أو نحوهم كما يقتضيه بيانه وإيضاحه صلى الله عليه وآله وسلم للمقصود من الآية، انتهى من اللوامع.
وقد ورد حديث الكساء بألفاظ مختلفة في المعجم الكبير 23/337 برقم 783، الجامع الصحيح سنن الترمذي 5/351 برقم 3205، المستدرك على الصحيحين 2/451 برقم 3558، سنن البيهقي الكبرى 2/150 برقم 2683، المعجم الكبير 3/52 برقم 2662.(1/115)

23 / 51
ع
En
A+
A-