وفي الشرع عبارة عن كل قول أو فعل للرسول صلى الله عليه وآله وسلم على جهة المداومة، واحتراز مما فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا على جهتها، فإن ذلك لا يعد من السنة.
وأما الفصل الثاني: فقد اختلف العلماء في معنى الحدث في الإسلام، فقال قائل: الحدث في الإسلام هو ما كان كالردة ومؤازرة الكفار والبغي على إمام المسلمين ومَا شابه هذه الأشياء.
وقال غيره: كل معصية لله سبحانه فهي تسمى حدثاً في الإسلام، كشرب الخمر وأشباهه.
وأما الفصل الثالث: وهو فيما يطلق على المقالة المتقدمة من هذه الأشياء، فلا شك في تسميتها بدعة ؛ لأن السنة جاءت بإمامة علي عليه السلام وإعظامه وتفضيله على غيره، وأنه هو الخليفة بعده صلى الله عليه وآله وسلم، ومما جاءت به السنة توقير العترة المطهرة والتمسك بأسبابها والدخول في الحطة من بابها، وهذا معلوم من دينه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شك أن المقالة المذكورة عاكست هذه الفصول، وردت هذه الأصول، فلا جرم أن تكون بدعة ؛ لأنه لا يخلو ما كان من باب التدينات من أن يكون سنة أو بدعة، وليس قولنا سنة في أفعالنا إلاّ اتباع السنة النبوية والعمل بموجبها، لا أن في أفعالنا المجردة ما يسمى سنة.(1/91)


فائدة: قد لا يطلق لفظ السنة إلاّ على ما داوم عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم بيانه وهذا مختص بعلم أصول الفقه، وقد يطلق ويراد به ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً، وإن لم يداوم عليه، ومن ذلك أسلوب العلماء في قولهم يدل عليه الكتاب والسنة، إذا أخذوا في الإحتجاج على شيء، ويريدون بالسنة كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي بهذا الاعتبار اسم لما تكلم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك كلام علي عليه السلام لعبد الله بن العباس، لما بعثه للاحتجاج على الخوارج: (لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً)، أراد عليه السلام بالسنة كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما اعتبر في لفظ السنة المداومة فيما كان يخص العبادات القولية والفعلية، كما هو مقرر في مواضعه من كتب الأصول.
ونعود إلى تمام ما كنا فيه فنقول: قد تلخص أن لفظ البدعة واقع على المقالة المذكورة، وأنها ليست من السنة في مراح ولا مغدا.
وبقي الكلام هل تسمى حدثاً في الإسلام ؟(1/92)


فيقال: من قصر على ذلك الأحداث الكبيرة كالردة وموالاة الكفار والبغي على أئمة الحق، لم يسمِ هذه المقالة بهذا الإسم، ومن قال: كل معصية مطلقاً تسمى في الإسلام حدثاً، سمى هذه المقالة بهذا الإسم.
وأما الفصل الرابع: وهو في بيان حكم القائل بتلك المقالة وحكم السامع لها، فقد تقدم في المسألة الأولى شطر من الكلام في هذا المعنى، ونزيده بياناً هَاهُنا.
فيقال: قد ثبت تسمية تلك المقالة بدعة، ولا أبلغ في الحث على إنكارها من الحديث المشهور ((من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً يوم القيامة))، وروي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعائشة: ((يا عائشة، لكل ذنب توبة إلاّ أصحاب الأهواء والبدع، فإنه ليس لهم توبة، أنا منهم بريء، وهم مني براء))، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من وقَّر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام)).
وأما هل يجب الإنكار أم لا ؟ فلا يبعد أن يكون وجوبه كوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشترط هَاهنا ما يشترط هناك، وأما حُسن الرد واستحبابه، فلا شك فيه.
وفي كتاب "الكواكب الدرية في النصوص على إمامة خير البرية"، من تصانيف حي الأمير السيد العلامة صلاح بن أمير المؤمنين إبراهيم بن تاج الدين ما لفظه:(1/93)


"أما بعد فإنها ظهرت مقالة من بعض من ينتمي إلى العلم، ويدعي بزعمه أنه من أولي الفهم، وهي إنكار النصوص على أمير المؤمنين وسيد الوصيين - عليه صلوات رب العالمين - فلما بلغ ذلك إليّ، إعتقدت وجوب الرد عليه وتصويب أسِنَّةِ الطعن والتشنيع إليه ؛ لكون ذلك بدعة يجب إنكارها، ومقالة يقبح إظهارها".
تم كلامه، قدّس الله روحه، فقد رأيت كيف ذكر الرد بلفظ الوجوب، وسمى هذه المقالة بدعة، وهذا عين ما نحن فيه.
وأقول: لقد كان من تقدم من الأئمة والسادات والعلماء عاملين بقدر ما علموا من فضل علي عليه السلام ومكانته عند الله وعند رسوله، فأقاموا في تصحيح إمامته المحجة، وأوضحوا في ذلك كل دليل وحجة، وكان هجيراهم رد الشبه والخيالات الواردة في إنكار النصوص، ومقارعة المخالفين بقواضب الأدلة، ومطاعنة النواصب برماح البراهين، لا يمسهم في ذلك سَأَم، ولا يردهم مَلام مَنْ لامَ وكَلّم، ولله القائل:
إذا لم تبر من أعدا علي .... فما لك في محبته ثواب(1/94)


هيهات أصبحنا في حثالة رضوا من محبته بما سنح، وسمعوا في دهرهم مَنْ طعن في إمامته ومَنْ قدح، فما هزتهم للرد حمية، وهم يرون إمامة خير البرية لرماح الطاعنين في ميدان الطرد دريئة، ولله القائل:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي .... بنو اللقيطة من ذُهْل ابن شيبانا
إذاً لقام بنصري معشر خشن .... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ .... ليسوا من الحرب في شيء وإن هانا(203)
______________
([203]) - في حاشية الدسوقي على المغني ما لفظه: قوله (لو كنت من مازنٍ..... إلخ). صاحب هذه الأبيات رجل من بني العنبر، وقوله : من مازن؛ أبوقبيلة من تميم، وقوله: لم تستبح؛ أي لم يستأصلها ويأخذها قهراً، وبنو اللقيطة: قوم من العرب، وقوله: ذهل؛ بضم الذال المعجمة وإسكان الهاء.
والمعشر: جماعة من الناس، وخشن بضم الخاء والشين المعجمتين، أي: شجعان، والحفيظة: الخصلة التي تُحفَّظ لها.
واللوثة بضم اللام: الضعفة، وبفتحها: القوة، والثاء مثلثة فيهما.
قال المرادي: في الرواية الصحيحة ضم اللام وهو تعريض بقومه ليغضبوا أو يهتاجوا لنصرته، من هامش(أ).(1/95)

19 / 51
ع
En
A+
A-