قلنا: تعلقكم بالدليل على عصمته عليه السلام إنما هو بآخر الكلام، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ووال من والاه، وعاد من عاداه)) ونحن لا ننكر هذا ؛ لكن دليلنا على الإمامة قوله صلى الله عليه وآله وسلم في أول الكلام: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) فأولها دليل على الإمامة، وآخرها دليل على العصمة، وحينئذ مرحباً بالوفاق، ولا تنافي بين العصمة والإمامة.
جواب آخر: سلّمنا لكم أن هذا الخبر إنما يدل على عصمته حين دعا له على القطع الذي يوجب له المولاة ظاهراً وباطناً، وأن هذا متى ثبت فإنه يدل على أنه كرم الله وجهه أحق بالإمامة من غيره الذي لم تثبت عصمته ؛ لأنه عليه السلام متى كان مقطوعاً بعصمته، كان إيمانه وعدالته مقطوعين معلومين، وهذان الشرطان معتبران في الإمامة، أعني الإيمان والعدالة، ومتى كانا فيه عليه السلام معلومين قطعاً وفي غيره مظنونين، لم يجز العدول عن المعلوم إيمانه وعدالته إلى المظنون ذلك من حاله ؛ لأن العدول إلى الظن مع حصول ما يوجب العلم لا يجوز، كما لا يجوز العدول إلى الإجتهاد مع وجود النص، فقد بان بذلك أنّ في الخبر دلالة على إمامته عليه السلام كيفما دارت القضية، وأن المتقدم عليه مخطئٌ على كل حال.(1/86)


وقد أتينا على جواب ما ذكرناه من الخيالات على جهة التنبيه لا غير، ومن أراد استيفاء الأجوبة الشافية على اعتراضات المعتزلة بأزمتها فعليه بفايض القاضي شمس الدين، والجزء الثالث من المحجة البيضاء، وكتاب الأوامر المجملة لحي جدي المرتضى بن المفضل قدس الله روحه، وأمثالها من تصانيف الأئمة الأقمار، والعلماء الأخيار، والقصد في هذا المختصر بيان حكم صاحب هذه المقالة المذكورة، وإكذاب دعواه في إظهار التمسك بمذهب أسباط الرسول وأولاد البتول.(1/87)


المسألة الثانية:
وهي في معنى الأَولى وما الذي تراه الفرقة الناجية والعصابة الهادية؛ في إلقاء صاحب هذه المقالة مقالته هذه إلى قلوب كثير من المسلمين، وحرْصه على ميلها إلى رأيه هذا، واجتهاده الكلي في غرس خيالاته وخراريف كلاماته في خواطر بُلْه الدَّرسة ومن لا معرفة له بتصانيف الأئمة الهداة والعلماء الأبرار، وتراه يلقنهم هذه الآراء الفاسدة والعقائد المائدة، ويعهد عليهم أن هذا هو الدين الصحيح، والمذهب الصريح، والطريقة النبوية، والحجة الجلية، وأن المائل عن سمته مائل عن الصواب، والمخالف له مخالف لما في السنة والكتاب، هل يجب على المسلمين إنكار هذه المقالة ؟ وهل تستحق أن تسمى بدعة في مذهب الزيدية يجب انتهار صاحبها وكشف قناع المحاباة في دين الله ؟ أم لا تستحق أن تسمى بدعة ؟ وإذا كانت بدعة، فهل يجب إنكارها ؟
وما حكم القادر على إنكارها بيده ولسانه وقلبه وقلمه ؟ وهل يأثم بترك الإنكار أم لا؟
وإذا لم تكن بدعة، فهل تسمى سنة ؟
وهل يخلو الحدث في الإسلام من أن يكون سنة أو بدعة ؟ وهل هذه المقالة تسمى حدثاً في الإسلام أم لا ؟
الجواب: والله الهادي إلى الصواب ينحصر في أربعة فصول:
* الأول: في بيان السنة والبدعة.
* والثاني: في بيان الحدث في الإسلام وماهو ؟.(1/88)


* الثالث: في بيان ما يطلق على هذه المقالة من هذه الأسماء.
* والرابع: في حكمه وحكم السامع لقوله.
[بيان معنى البدعة]
أما الفصل الأول: فالبدعة في اللغة مصدر ابتدع يبتدع بدعة وابتداعاً، يقال ذلك لمن جاء بغريب من فعله أو قوله، ومنه تسمية الله تعالى لنفسه بديعاً، قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}[البقرة:117] لما أبدع فيهما من المخلوقات الباهرة، ومن ذلك يسمى علم البديع بهذا الإسم لغرابته، ومنه سمي بديع الزمان حين فاق أهل زمانه في براعة لسانه وبلاغة بيانه، وقد صار هذا الإسم في الشرع لمن خالف السنة النبوية، فهي في اللغة اسم مدح، وفي الشرع اسم ذم، وعليه الحديث المشهور ((من انتهر صاحب بدعه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً)).
وعن علي عليه السلام: (السنة ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والبدعة ما خالف ذلك).
وقال المؤيد بالله قدس الله روحه: "البدعة هي الطاعة التي يؤديها فاعلها مختلطة بمعصية".(1/89)


وبين الإسم الشرعي واللغوي مناسبة معنوية ؛ لأن أهل اللغة سموا من جاء بالغريب من فعله أوقوله مبتدعاً لغرابة ما جاء به، وهذا في الشرع معتبر ؛ لأنه إنما سمي من خالف السنة مبتدعاً لأنه جاء بالغريب الذي لم يعلم من الشريعة، ولما علم من الشرع أن البدعة إسم ذم، اتسع تداول الألسنة هذا الإسم، حتى قال في ذلك أهل اللسَان، واعتمد في تشبيه التخييل من شواهد علم البيان.
فكأن النجوم بين دجاها .... سنن لاح بينهن ابتداع
قال أهل البيان: وجه التشبيه الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة في جوانب شيء مظلم أسود فهي غير موجودة في المشبه به إلاّ على طريق التخييل، وذلك أنه لما كانت البدعة وكلما هو جهل يجعل صاحبها كمن يمشي في الظلمة فلا يهتدي إلى الطريق، ولا يأمن أن ينال مكروهاً، شبهت به، ولزم من طريق العكس أن تُشبه السنة وكلما هو علم بالنور والبياض، ومنه الحديث ((أتيتكم بالحنيفية البيضاء)).
وأما السنة فهي في اللغة الطريقة، وعليه قول أبي ذويب الهذلي:-
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها .... فأول راض سنة من يسيرهَا
وقد بين ذلك مولانا أمير المؤمنين المنصوربالله عليه السلام في كتابه المعروف "بالحكم السوابغ في شرح الكلم النوابغ".(1/90)

18 / 51
ع
En
A+
A-