خيال: زعموا أن لفظة الولي في الآية لم ترد بمعنى تملك التصرف، وإنما وردت بمعنى الناصر، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ}[الأعراف:196]وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}[الإسراء:111] وأمثالهما مما عولوا عليه.
جوابه: أن المرجع في معرفة ألفاظ اللغة إلى أئمتها، لا إلى تحكمات الأهواء والأغراض، وقد وردت هذه اللفظة بمعنى الناصر، كما ذكروه، وبمعنى المالك للتصرف وللأحق بالأمر، وللأملك، وعليه قول شاعرهم وهو الكميت في قصيدته المشهورة:
فنعم ولي الأمر بعد وليه .... ومنتجع التقوى ونعم المؤدب
فاستعمل الولي في القائم بالأمر، المتولي له، القائم فيه بتدبيره.
وقال أبو العباس المبرد: الأصل في تأويل لفظ الولي هو الأولى والأحق، ومثله لفظ المولى، وعليه من القرآن قوله تعالى في المقتول {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}[الإسراء:33] يعني لأولى الناس به، ومن له الولاية على القتيل، وعلى هذا ولي المرأة من يملك عقدة نكاحها، ويوصف الزوج بأنه ولي المرأة من طريق اللغة، لما كان يمنعها من أمور، ويبيح لها أموراً.(1/81)


خيال: زعموا أنا وإن سلمنا ذلك فإنه لا يفيد معنى الإمامة.
جوابه: أنا لا نعني بالإمامة إلاّ ملك التصرف على الكافة، واستحقاق القيام على الأمة، والاستبداد بذلك دون الغير، فإذا صح أن علياً عليه السلام هو الولي على المؤمنين، ثبت أنه إمامهم، وصح ما أردنا.
خيال: قالوا: لستم بحمل هذه اللفظة على الأملك والأحق بأولى منا بحملها على الناصر والمحب.
جوابه: أن الخطاب متوجه إلى بعض المؤمنين، وهو علي عليه السلام، والنصر والمحبة لا تخصه دون غيره ؟ يوضحه أنه تعالى أخبر بلفظ ((إنما))، وهي تقتضي الحصر على ما دخلت عليه، كقوله تعالى: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[الكهف:110].
لنا أيضاً: حمل لفظ الولي على المعنيين جميعاً من حيث لا اختلاف بينهما، فصح ما قلناه.
خيال: يختص بخبر الغدير، قالوا: إنما قصد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ مولى الناصر دون ما ذكرتم.
جوابه: أن ذلك المقام مما لا ينبغي أن يكون أمره وخبره مصروفاً إلى إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بأن علياً عليه السلام ناصره ؛ لأن هذا أمر معلوم لا يحتاج فيه إلى بيان.(1/82)


يزيده وضوحاً أن نزول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في غير وقت النزول، وأمره بقم الدوحات واجتماع الناس وإنصاتهم إلى كلامه صلى الله عليه وآله وسلم لا يصح أن يقصد به إخبار القوم بما هم عالمون به، فكما لا يصح أن يقيمهم ذلك المقام ويقول: أيها الناس إن أبا بكر ولد لأبي قحافة، ويسكت على هذا، أو يقول: هذا عمر بن الخطاب، وزوجتي عائشة بنت لأبي بكر، وحفصة بنت لعمر أيضاً، فكما أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أن يتكلم بهذا، ويوقف السيارة، ويقوم فيهم خطيباً به فكذلك قولكم إنه قصد أن علياً ناصره ؛ لأن علمهم بذلك يضاهي علمهم بهذه الأُمور، وكيف يسوغ لعاقل أن يفعل مثل هذا، فيجعل انتصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرمضاء والحر الشديد، وجمع أقتاب الإبل وانتصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه بيد علي عليه السلام ليعرف الناس أنه ناصره، مع علمهم بذلك، وهل هذا إلاّ غاية السفه والعبث الذي لا يجوز أن يقصده صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وما وجه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألست أولى بكم من أنفسكم ؟)) وهلاّ قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، من دون هذا التنزيل في إيقاع الكلام على الصفة المعروفة، وقد بان أن من ذهب إلى هذا مَائل عن الحق، سالك غير طريق الصواب.(1/83)


خيال: قالوا: لم يوجد في اللغة أن مولى بمعنى الإمامة فلا يحمل عليه.
جوابه: أنا إنما قلنا: أن أحد معاني المولى المالك للتصرف والأحق، وعليه مالا يحصى كثرة من منظوم ومنثور، ومنه ما مدح به الأخطل عبد الملك بن مروان(190):
فأصبحت مولاها من الناس كلهم
وإنما أراد مدحه بملك التصرف على الأمة وهذا هو معنى الإمامة، فصح ما قلناه، وبطل ما تعلقوا به.
خيال: قالوا: الإمامة أمر شرعي لا يجوز أن يستفاد إلاّ من لفظ شرعي، ولفظة مولى لغوية، فلا يجوز أن تفيد المعاني الشرعية، وهذا الاعتراض لقاضي القضاة.
جوابه: أن ما ذكره خارج عن قول الفقهاء وسقيم في نفسه ؛ لأن الأحكام الشرعية تارة تستفاد بالألفاظ الشرعية، نحو لفظ الزكاة والصلاة والحج، وتارة بالألفاظ اللغوية، نحو قتل المشركين، وسبيهم، وتحليل ذبح الذبائح، ولباس الزينة عند المساجد، وغير ذلك، بل أكثر الأحكام الشرعية مستفادة من الألفاظ اللغوية، وقليل منها يستفاد من الألفاظ الشرعية، وقد ذكر قاضي القضاة وغيره أن الأحكام الشرعية تستفاد من الألفاظ اللغوية بأن تحمل على المعنى الشرعي، فإن لم يكن، فعلى العرفي، فإن لم يكن فعلى المعنى اللغوي.
___________
([190]) - عبدالملك بن مروان بن الحكم، ولد سنة 26هـ بالمدينة، وأمه عائشة بنت معاوية بن الوليد بن المغيرة بن العاص بن أمية.
ولي الخلافة بعد أبيه بعهد منه، قضى على حركة مصعب بن الزبير، ووجه الحجاجَ بن يوسف الثقفي لقتال عبدالله بن الزبير، فسار إليه في جمادى الأولى سنة 72هـ فلما وصل مكة حصر ابن الزبير بها ورماها بالمجانيق، وانتهى الأمر بمقتل عبدالله بن الزبير، وهو الذي ولّى الحجاج بن يوسف الثقفي على العراقين سنة 75هـ، توفي عبدالملك في شوال سنة 86هـ.(1/84)


خيال: قالوا: ما أنكرتم أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما أراد بيان عصمته ووجوب موالاته ظاهراً وباطناً، وهذه هي منزلة شرعية يجوز أن يقصدها، هذا الخيال أهم ما تمسكوا به، وأشف ما عولوا عليه.
جوابه: أن لفظ مولى لا يقتضي وجوب ما ذكروه، ولا تكليف علينا أن تقع الموالاة في الباطن، ويكفي في وجوب موالاته عليه السلام ظاهر الحال، كظاهر الإسلام، وقد كانوا عارفين بذلك من حاله بدون تعريفه صلى الله عليه وآله وسلم، وأما عصمته فقد ورد فيها دليل غير هذا، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33) }[الأحزاب] على ما نبينه، إن شاء الله تعالى.
قالوا: أراد صلى الله عليه وآله وسلم زيادة في البيان في عصمته عليه السلام فلا معنى لقولك: إن على عصمته دليلاً غير هذا ؛ لأنه أبلغ في الإيضاح متى تكاثرت الأدلة.(1/85)

17 / 51
ع
En
A+
A-