والقصد بيان قوله عليه السلام: "إن من قال بهذه المقالة لا يعد من الزيدية رأساً"، وقد استوفيت كلامه عليه السلام في المسألة لشدة الحاجة إليه، وإيضاح مذهب الزيدية في ذلك.
وقال الإمام المؤيد بالله عليه السلام، يحيى بن حمزة في كتابه المسمى "مشكاة الأنوار للسالكين مسالك الأبرار" ـ على شدة ذبه عن المشائخ، ومبالغته في نصرة سلامتهم من التضليل ـ: "ونحن وإن قلنا بأن النصوص الواردة في إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام قاطعه، فخطأهم في النظر فيها لا يوجب كفراً ولا فسقاً"، تم كلامه.
وإنما قصدنا بذكره بيان حكمه في الخطأ، فقد صح أن صاحب هذه المقالة المتقدمة ليس من الزيدية في ورد ولاصدر، وأن إظهاره للتمسك بمذهب أهل البيت مخرفة لا صحة لها.
وأما التفضيل والكلام في أمره فلم نتعرّض لذكره لظهور مذهب أئمتنا وساداتنا وعلمائنا في ذلك، وما أحسن هاهنا ما قاله الزبيري لبشر المريسي حين قال له بشر: "أتفضل علياً على أبي بكر وعمر؟
قال الزبيري: لا.
قال: أفتقول إنهم في الفضل سواء؟
قال: لا.
[قال: أفتقول إنهما أفضل من علي؟
قال: لا] .
قال: فكيف ؟.(1/61)


فقال الزبيري: وجدت الأشياء شيئين، شكلاً وضداً، فمتى وجد شئ يشاكل شيئاً فيجري مجراه ولا يسوّى به، ووجدت من شبه الشكل بغير شكله، وقاس الجنس بغير جنسه، نسب إلى الجهل وقلة التمييز، وذلك أنه لا يقال الليل أضوَأ أم النهار ؟ ولا الصبر أحلى أم العسل ؟ لأن أحدهما لا يشبه صاحبه، ولا هو من جنسه، وإنما يقال: الشمس أضوأ أم القمر؟ ويقال: العسل أحلى أم السكر ؟ فيقال العسل ؛ لأنهما من جنس واحد، وأحدهما أحلى من صاحبه وأضوأ، وكذلك وجدنا الناس جنسين، جنس نبؤة؛ وجنس رعية؛ ولا يقاس أحدهما بصاحبه؛ فلذلك لا يقال علي أفضل أم أبوبكر؟ لأنه لا يشبهه، ولأنهما ليسا من جنس واحد.
ولكن يُقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل أم ابن عمه علي عليه السلام؟، فيقال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من علي عليه السلام، ويقال علي أفضل أم الحمزة وجعفر والعباس رضي الله تعالى عنهم ؟
فيقال علي عليه السلام.
وجائز أن يقال: أبو بكر أفضل أم عمر أم عثمان أم طلحة أم الزبير ؟ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - كذلك ألفهم حين آخى بين الصحابة، وآخى بين نفسه صلى الله عليه وآله وسلم وبين علي عليه السلام ؛ لأنه من شكله في الجنس ونظيره في المولد، شعراً:-
إن علي بن أبي طالب .... جدا رسول الله جداه
أبو علي وأبو المصطفى .... من طينة طهرها الله(1/62)


وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع المسلمين لعلي عليه السلام: ((يا علي إنك أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة))(135)، مناظرة الزبيري إلى آخرها، وإنما أردنا الإشارة، لا الإطالة في العبارة.
________________
([135]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/514:
وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لعلي (ع): ((أنت وصيي)) رواه محمد بن سليمان الكوفي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي (ع)؛ ورواه عن زيد بن أرقم، من طريقين.
وروى أيضاً عن الباقر (ع) قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((يا علي أنت أخي ووصيي، وأنت أمين النبيين؛ وخاتم الوصيين)).
وروى أيضاً بسنده عن الباقر (ع) من حديث الإسراء: ((فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء ملائكة يقال لهم: الأوابون، فسمعتهم يقولون: محمد خير الأنبياء، وعلي خير الأوصياء...إلخ)).
وروى بإسناده إلى أبي رافع عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: ((أما ترضى يا علي أنك أخي في الدنيا والآخرة، وأنك خير أمتي في الدنيا والآخرة، وأن امرأتك خير نساء أمتي في الدنيا والآخرة، وأن ولديك سيدا شباب أمتي في الدنيا والآخرة، وأنك أخي ووزيري ووارثي)).
وخطب علي (ع) فقال: (أنا عبدالله وأخو رسوله، لا يقولها أحد قبلي ولا بعدي إلا كذاب؛ ورثت نبي الرحمة، ونكحت سيدة نساء هذه الأمة، وأنا خاتم الوصيين)، أخرجه محمد بن سليمان بسنده إلى أبي البحتري الأنصاري، والأصبغ بن نباتة، وهو في شرح النهج عن حكيم بن جبير، شرح نهج البلاغة. انتهى.
وقال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع ج/1/115:
وروى الإمام الحجة المنصور بالله عليه السلام في الشافي، عن مجدوح بن زيد الهذلي، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين المسلمين، ثم قال: ((يا علي أنت أخي مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لانبي بعدي ؛ أما علمت يا علي، أنه أول من يدعا به يوم القيامة يدعا بي ؛ فأقوم عن يمين العرش، فأُكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعا بالنبيين بعضهم على إثر بعض أيأيأيك منتلخهض، فيقومون سماطين عن يمين العرش، ويكسون حللاً خضراً من حلل الجنة ؛ ألا وإني أخبرك يا علي، أن أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة ؛ ثم أنت أول من يدعا ؛ لقرابتك ومنزلتك عندي، ويدفع إليك لوائي، وهو لواء الحمد، فتسير به بين السماطين، آدم عليه السلام وجميع خلق الله يستظلون بظل لوائي ؛ وطوله مسيرة ألف سنة)) الخبر، الشافي.
قال في تفريج الكروب: رواه أحمد بن حنبل عن مجدوح بن زيد الهذلي، ورواه الخوارزمي في فصوله. انتهى.
قال أيده الله تعالى في التخريج: ورواه الخوارزمي، وابن المغازلي عن عطية بن زيد الباهلي، ورواه الأكوع بسنده إلى عطية في الأربعين، ورواه الفقيه حميد الشهيد بطريقه إلى ابن المغازلي بسنده إلى زيد الباهلي، ورواه أحمد في مسنده، وفي كتاب فضائل علي انتهى بتصرف .
قلت: وقد تقدم له رضي الله تعالى عنه مالفظه: وروى ـ أي محمد بن سليمان الكوفي رضي الله عنه ـ بإسناده إلى عبدالله بن أبي أوفى، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه، إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((إنما ادخرتك لنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت أخي ووصيي، ووارثي)) إلخ.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت أخي ووارثي)).
أخرجه أحمد بن حنبل عن زيد بن أبي أوفى من التفريج، انتهى.
وأخرج الإمام في الشافي، بسنده إلى أنس، من خبر طويل في المؤاخاة، قال فيه: فأخذ بيده فأرقاه المنبر وقال: ((اللهم إن هذا مني وأنا منه ؛ ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى ؛ ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه)).
قال: فانصرف علي عليه السلام، قرير العين، فاتبعه عمر بن الخطاب فقال: بخ بخ ياأبا الحسن، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن.
وقال حذيفة في حديثه: فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له شيبه ولا نظير، وعلي أخوه. انتهى، وقد جمع هذا الخبر الشريف خبر الموالاة والمنزلة والمؤاخاة، انتهى.
وفي المعجم الكبير 1/319 برقم 949: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: (( أما ترضى أنك أخي وأنا أخوك)).(1/63)


وقد روي عن الشافعي رضي الله عنه في التفضيل هذه الأبيات:-
يقولون لي فضل علياً عليهم .... ولست أقول الدر خير من الحصا
إذا أنا فضلت الإمام عليهم .... أكون لمن فضلته منتقصا
أمَا هو عار في الحسام وسبة .... متى قيل هذا السيف أمضى أم العصا
وقد أجاد - رحمه الله تعالى - واستكمل الإحسان في هذه الأبيات الغريبة، ولا ريب في محبته لأهل البيت عليهم السلام، ومدائحه فيهم ظاهرة، وسوف يعرض من الكلام ما يكون أليق بذكره نبذة من ذلك إن شاء الله تعالى.
[ما يعامل به]
* وأما المطلب الثالث: وهو في بيان ما يعامل به صاحب هذه المقالة: فالذي يعامل به يختلف فيه الحال، فحين يظهر منه الاستخفاف بمذهب العترة النبوية، وتضعيف أقوالهم، واستركاك كلامهم في هذه المسألة، وما يتعلق بها، ونسبة الخطأ إليهم في أقوالهم ومذاهبهم، فإنه يجب الإنكار عليه، ومنعه من التدريس بهذا التلبيس، وللإمام والحاكم وأهل الولايات العامة النظر في أمره بما يرونه مصلحة من أنواع التأديبات، ويستحب مراجعته بالتي هي أحسن حين يرجو رجوعه إلى الحق، وتجوز الغلظة عليه في الكلام حين الأياس من ذلك، ولا يجوز لعنه ولا سبه ما لم يظهر من قوله ما يوجب شيئاً من هذه الأمور.
إن قلت: يلزم هذا الحكم في علماء المعتزلة، قلت: لا سواء ؛ لأن علماء المعتزلة وإن ذهبوا إلى تصويب المتقدمين على أمير المؤمنين، فلم يظهر على أحد منهم نسبة الخطأ إلى العترة المطهرة ولا استهانة بأقوالهم، وأكثر ما ظهر منهم الحجاج والجدال في المسألة، كما هو دأب العلماء.
ووجه آخر وهو أن من نبغ في بحبوحة بلاد الزيدية مسفهاً لحلومها، مخطئاً لعلومها، مصوباً لخصومها، مهجناً لأئمتها، مزيفاً لأدلتها، متركاً لأقوالها، منهوماً بخلالة أحوالها، فإنه مخالف لغيره مما ليس على هذه الصفات الذميمة، والطرائق غير المستقيمة.(1/64)


وقال مولانا أمير المؤمنين الناصر لدين الله محمد بن أمير المؤمنين - عليهما السلام - مَا معناه أن بعض أئمة العترة قال ـ فيمن اقتعد في مساجد الزيدية يقرأ في علوم خصومهم، ويفري أديم أقاويل العترة وعلومهم ـ: إن من فعل ذلك يمنع من القراءة في مساجد الزيدية.
وأظن القائل بهذه المقالة حي والده مولانا الإمام المهدي لدين الله عليه السلام لأني سمعت من يروي عن حي الإمام عليه السلام شيئاً من هذا القبيل، وإذا تمرد ذلك وخالف هذا المشار إليه أمر الإمام حين يمنعه من الإقراءِ في مساجد الزيدية، كان للإمام تأديبه بما يراه.
وقال المؤيد بالله يحيى بن حمزة(143) عليه السلام في كتابه "مشكاة الأنوار" مَا هو أبلغ من هذا وهو أنه قال: "للإمام قتل الناس حتى يتركوا المنكرات، ويحملهم على سلوك الطريقة الوسطى مقتفين لآثار أئمة العترة"، هذا كلامه بلفظه، ولا شك أن نسبة الخطأ إلى الأئمة من المنكر.
___________________
([143]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في التحف شرح الزلف ط/3/270:
هو الإمام المؤيد بالله أبو إدريس يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم بن يوسف بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إدريس بن جعفر الزكي بن علي التقي بن محمد الجواد بن الإمام علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن سيد العابدين علي بن الحسين السبط بن الإمام الوصي عليهم السلام.
هذا الإمام من منن الله على أرض اليمن، وأنواره المضيئة في جبين الزمن، نفع الله بعلومه الأئمة، وأفاض من بركاته على هذه الأمة، وله الكرامات الباهرة، والدلالات الظاهرة.
قيامه: بعد وفاة الإمام محمد بن المطهر سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
وقد ذكر والدنا الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم الحسيني الحوثي في تراجمه لآبائه عليهم السلام من كراماته عليه السلام ما يكفي ويشفي، وقد ذكرت ذلك آخر الموعظة الحسنة [مطبوع]، وقد ذكر كرامات الإمام وخصائصه علماء الأمة.
إلى قوله أيده الله تعالى: وفاته: سنة تسع وأربعين وسبعمائة، عن اثنتين وثمانين سنة، مشهده بمدينة ذمار، وكان يُسمع وقت وفاته نداء لفظه: إمام علم وهدى.
وخرج لزيارة الإمام يحيى بن حمزة من الجيل والديلم الشريف العالم العابد المجتهد الراسخ أحمد بن مير ـ بميم مكسورة فمثناة تحتية فراء بمعنى سيد ـ بن الناصر (الحسني) ينتهي نسبه إلى الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عليهم السلام، فوجد الإمام يحيى قد توفي، وأوصل نسخة الجامع الكافي جامع آل محمد إلى اليمن وعليها خطوط العلماء من الزيدية ووقفها على المسلمين.(1/65)

13 / 51
ع
En
A+
A-