وحكى صاحب الشرح المذكور، أن رأي المعتزلة استقر بعد خلاف كثير بينهم في التفضيل وغيره أن علياً أفضل الجماعة(115)، وأنهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها، وأن علياً عليه السلام، نازع، ثم بايع، وأحجم، ثم أصحب، ولو أقام على الإمتناع، لم نقل بصحة البيعة، ولا بلزومها، ولو جرّد السيف كما جرّده آخر الأمر؛ لقلنا بفسق كل من خالفه على الإطلاق كائناً من كان، قال: "وبالجملة فإن أصحابنا يقولون: إن الأمركان له، وكان هو المستحق والمتعين، إن شاء أخذه لنفسه، وإن شاء ولاّه غيره، فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره،
_____________
([115]) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/470:
ولما بلغ [أي ابن أبي الحديد في شرح النهج] إلى القول في التفضيل ، قال : وقال البغداديون قاطبة، قدماؤهم ، ومتأخروهم ، كأبي سهل بشر بن المعتمر ، وأبي موسى عيسى بن صبيح ، وأبي عبدالله جعفر بن مبشر ، وأبي جعفر الإسكافي.
قلت : هو محمد بن عبدالله ، صاحب الكتاب العظيم في الرد على الجاحظ ؛ لأن الجاحظ والنظام، وأمثالهما من البصريين المائلين عن أمير المؤمنين عليه السلام، وغير مستنكر منهم، وكلام الوصي في البصرة وأهلها معلوم .
قال : وأبي الحسين الخياط ، وأبي القاسم عبدالله بن محمود البَلْخِي ، وتلامذته [قالوا] : إن علياً عليه السلام أفضل من أبي بكر ، وإلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي .
إلى قوله : وقال ـ أي قاضي القضاة ـ: إن أبا علي رضي الله عنه يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه، وقد كان ضعف عن رفع الصوت ، فألقى إليه أشياء، من جملتها القول بتفضيل علي عليه السلام.
وممن ذهب من البصريين إلى تفضيله عليه السلام: الشيخ أبو عبدالله الحسين بن علي البصري رضي الله عنه، كان متحققاً بتفضيله، ومبالغاً في ذلك ، وصنف فيه كتاباً مفرداً ، وممن ذهب إلى تفضيله عليه السلام من البصريين قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رضي الله عنه .
ومن البصريين الذاهبين إلى تفضيله عليه السلام ، أبو محمد الحسن بن مَتَّويه ، صاحب التذكرة ، نص في كتاب الكفاية على تفضيله عليه السلام على أبي بكر واحتجّ لذلك ، وأطال الاحتجاج.
إلى قوله : وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله عليه السلام ، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل ، وهل المراد به الأكثر ثواباً أم الأجمع لمزايا الفضل ، والخلال الحميدة؟ وبيّنا أنه عليه السلام أفضل على التفسيرين معاً .
ثم ساق في بيان أحوال الوصي رضوان الله عليه ، وأبان في خلال ذلك استناد جميع العلوم من جميع الفرق إليه .
وقال في حكاية مذهب البغدادين في الإمامة مانصه : إنه الأفضل ، والأحق بالإمامة .
إلى قوله: فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره أن الإمامة حقه ، وأنه أولى بها من الناس أجمعين إلى قوله : ولم يخرجه من تقدم عليه من كونه الأفضل والأولى والأحق ؛ وقد صرح شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى بهذا ، وصرح به تلامذته ، وقالوا : لو نازع عقيب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسلّ سيفه، لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدّم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ، ولكنه مالك الأمر ، وصاحب الخلافة ، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها ، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عنها؛ وحكمه في ذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : ((علي مع الحق، والحق مع علي ، يدور حيثما دار)) .
وقال له غير مرة : ((حربك حربي ، وسلمك سلمي)) .
وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي ، وبه أقول . انتهى، انتهى من اللوامع.(1/56)


اتّبعناه، ورضينا بما رضي".
هذا كلام علماء المعتزلة رواه عنهم خرّيت مذاهب مذاهبهم، وقد أردنا بيان مذهبهم في تفضيل علي عليه السلام، وإن كان في كلامهم دعوى موافقته عليه السلام للقوم، والرضى بما أقدموا عليه، فهذا ليس من مذهبنا، وربما يعرض من الكلام في المطلب الرابع ما يبطل هذه الدعوى إن شاء الله تعالى.
هذا وقد روي توقف أبي علي وأبي هاشم في تفضيل علي عليه السلام، وفي الرواية المتقدمة عن ابن أبي الحديد مَا يخالف ما روي عن أبي علي وأبي هاشم من التوقف ؛ لأنه أطلق الرواية عن المعتزلة في تفضيل علي عليه السلام، وقال: هو المستقر من مذهبهم، وظاهره العموم، ولا تصدر هذه الرواية عن عالم كبير إلا بعد خبرةٍ و تحقيق لما رواه، فلعل أبا علي وأبا هاشم قد رجعا عن التوقف إلى القول بتفضيل علي عليه السلام على من تقدم من الصحابة، وهذا الذي يليق بهما لرسوخ أقدامهما في التحقيق.
وأما قاضي القضاة، فقد صرح أن علياً عليه السلام أفضل من الثلاثة، فحصل من هذه النبذةِ أن صاحب المقالة المتقدمة قد زاد في خطأه على المعتزلة، وخرج عن مذهبهم في التفضيل، والمعلوم من إجماع العترة النبوية أن المعتزلة أخطأت في إنكار النصوص الواردة في إمامة الفاروق الأزهر.(1/57)


قال الشيخ العلامة سيف الأصوليين أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص في كتابه المعروف "بمنهاج الإنصاف العاصمة عن شب نار الخلاف" ـ بعد أن أطال الثناءَ على المعتزلة حتى قال ما لفظه ـ:
وإن كانت الهفوة لا تعصمهم، فللجواد كبوة، وفي الحسام نبوة، وإن كنا لا نحمدهم، بل نقول: إنهم قصَّروا في حق علي عليه السلام تقصيراً فتّ عضد تحقيقهم، وغيَّر في وجه تدقيقهم، ونقول ـ مع ذلك ـ: "بأنهم سقوا من فضالة الزيدية، وشرفوا باتباع العترة النبوية"، هذا كلام الشيخ صاحب الجوهرة، فقد بان بما ذكرناه زيادة صاحب هذه المقالة في الخطأ على مشائخ المعتزلة، وأنه كما تقول العامة في أمثلتها: "زاد على معلمه"، ومن أمثال العرب: "هذا أجل من الحرش".
[عدم انتسابه إلى الزيدية]
* وأما المطلب الثاني وهو في بيان هل يعد من الزيدية ؟
فالذي تقررت عليه قواعد مذهب الزيدية، شيد الله أركانه، هو القول بأن علياً عليه السلام، هو الإمَام بعد رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -، وأن المتقدم عليه مخطٍ بتقدمه، لا خلاف في الخطأ من المشائخ الثلاثة عند المحققين من الزيدية، وقد قيل أن القول يجمع الزيدية، أعني القول بخطأ من تقدم على علي عليه السلام في الإمامة، وإن اختلفوا في الخطأ وأحكامه، كما هو معروف في كتبهم ومقالاتهم.(1/58)


فحصل بما قلناه أن صاحب هذه المقالة لا يعد من الزيدية رأساً.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: في كتابه المعروف "بالكاشف للإشكال في الفرق بين التشيع والإعتزال": وسألت عمن رَضَّى عن الخلفاء، ويُحَسِّنُ الظن بهم من الزيدية، ويقول أنا أُقَدِّم علياً، وأرضّي عن المشائخ، ما يكون حكمه ؟ وهل تجوز الصلاة خلفه ؟
قال الإمام المنصور بالله: "الجواب عن ذلك: أن هذه المسألة غير صحيحة، فيتوجه الجواب عنها ؛ لأن الزيدية على الحقيقة هم الجارودية، ولا نعلم في الأئمة عليهم السلام من ليس بجارودي، وأتباعهم كذلك.
وأكثر ما نُقل وصح عن السلف هو ما قلناه على تلفيق واجتهاد، وإن كان الطعن والسب من بعض الجارودية ظاهر، وإنما هذا رأي المحصّلين منهم، وإنما هذا القول قول بعض المعتزلة، يفضلون علياً، ويرضُّون على المشائخ، وليس هذا يطلق على أحد من الزيدية ؛ لأنا نقول: قد صح النص على أمير المؤمنين من الله تعالى، ومن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وصحت معصية القوم وظلمهم وتعديهم لأمر الله سبحانه، وإن كانت جائزة المعصية والترضية فما أبعد الشاعر في قوله:-
فويل تالي القرآن في ظلم الليـ .... ـل وطوبى لعابد الوثن(1/59)


ومن حاله ما ذكرت لم يعد من الزيدية رأساً، وإنما هذا قول بعض المعتزلة، وصاحب هذا القول معتزلي لا شيعي ولا زيدي، وأجمل من قال في أبي بكر وعمر وعثمان - من آبائنا عليهم السلام - إنما هو المؤيد بالله عليه السلام، ونهاية ما ذكر أنهم لايُسبون، وأن سبهم لا يصح عن أحد من السلف الصالح عليهم السلام.
وأما الترضية فهذا يوجب القطع على أن معصيتهم صغيرة، فان أوجدنا صاحب المقالة البرهان على أن معصيتهم صغيرة تابعناه، فليس على مُتَّبع الحق غضاضة، ولكنه لا يجد السبيل إلى ذلك أبداً، أو عصمتهم، ولا قائل بذلك من الأمة، وشاهد الحال لو ادعى ذلك لفضحه ؛ لأن طلحة وَ الزبير كانا من أفاضلهم، وقد صح فسقهما بالخروج على إمام الحق ؛ وإنما رويت توبتهما، ولم يروَ عن الثلاثة توبة عما أقدموا عليه من الإمامة وتأخير علي عليه السلام عن مقامه الذي أقامه الله تعالى فيه ورسوله.
وأما الصلاة خلف من ذكرت، ففي الصلاة خلاف طويل، وقد أجازها الأكثر خلف المخالفين، مالم تكن مخالفتهم كفراً، فالأمر في ذلك أهون، والإحتراز من الصلاة خلف من يقول بذلك أولى"، تم كلام المنصور بالله منقولاً من كتابه المذكور.(1/60)

12 / 51
ع
En
A+
A-