هذا ولما رأيت عقربَة متحككة بالأفعى، وذكرت المثل السائر: استنت الفصال حتى القرعا، ورأيته مجداً في العداوة، على أنها سلمة كسلمة الإداوة، أنشأت قصيدة في التأَلم لمذهب العترة الزكية، والحث على طم هذه الركية البكية، علماً بأن سنة الأعداء بعلوم أئمتنا مقطوعة، ورؤوس الحساد بحلوم ساداتنا مقموعة، وكم من مهجة تحسد العترة مبتوتة، وكبد من شأنها مفتوتة، شعراً:
فدام فينا وفيهم ما بنا وبهم .... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد(1/46)
وعزمت على التوجيه بالقصيدة المذكورة، إلى صاحب الكرامات المشهورة، والآيات المسطورة، معيد حياة الإسلام، خاتم الأئمة الكرام، مولانا أمير المؤمنين، الناصر لدين الله رب العالمين، محمد بن علي بن محمد المشهور بصلاح الدين، صلوات الله عليه وسلامه، هزاً لقطوف حكمته الحالية المجاني، واستثماراً لغراس أقلامه الطيبة المعاني، واستنصاراً بعلومه المعدة للاستنصار، واستبصاراً بآرائه المعدة للاستبصار، حتى كان عليه السلام غاية المستنصر بالسيف والقلم، وآية المستبصر بالرأي والحكم، إن نطق أفاد، وإن ضرب أباد، وإن أراد جواب علمٍ أتقنه وأحسنه، وإن رجح خلافه أنفذه وأمكنه، يُحْلِي ويُمر، ويمضي ويَمر، ويَبلغ بكلامه حيث يبلغ بحسامه، وبحسامه حيث يبلغ بكلامه، ويُحْكِمُ بِحَكَمَتِهِ كما يَحْكُم بِحِكْمَتِه، ويَحْكُمُ بِحِكْمَتِهِ كما يُحْكِمُ بِحَكَمَتِهِ، كم أبدأ وأعاد، وأفاد وأباد، وساد وشاد، وصَالَ بقوله نهاية المُوصَل بصوله، وبصوله غاية الوصول بقوله، كم قد قال وصال، وأبان الأوصال، يا مبدي يا مندي أَبِّد أَيِّد مليك ملّتك، محمّد مُخْمِد، مُذهِب مَذْهَبٍ، جَدّل جَدَلَ، أَلْحَقَ الحقَّ الأَئِمَّةَ الأَثَمَةَ بواراً ثوَاراً، وقَتلهم وقَيلَهم فصار قصارى سلامتِهم، سلاّ منهم أرواحاً أزواجاً، أقْماهم أفَماهم مَوْتى مُؤتى مترتون مترثون مجدَّلون مخذَّولون.(1/47)
نعم وخشيت أن ترد القصيدة على مولانا أمير المؤمنين، عليه صلوات رب العالمين، فيشتغل باله الكريم بجواب خيالات أحقر من أن يجيل في جوابها قلماً، فلزمت طريقة الأدب، ورأيت تنقيح خيالات المموهين، بعد أن طلبت جوابها من سيدنا العلامة فخر الدين حافظ علوم الأئمة الهادين، عبد الله بن حسن الدواري أعاد الله من بركاته، فكتب إلي معتذراً، وكان من كلامه أيده الله: "نعم ما ندب إليه من الجواب عن الخيالات التي بلغته ممن لم يعض على العلم بضرس قاطع، ولم يكن له في منابت الطهارة والفضل سنخ أصل معرق، فيعلم أن الحكمة لا ينبغي أن تلقى إلاّ إلى أهلها وهم العملة، وإلقاء ذلك إلى غير أهله كالمتجمل للضرير، ومعلق سلك الجواهر في عنق الخنزير"، هذا كلامه أيَّدَهُ الله تعالى بعد أن قال: "وإن كان الجواب الجملي عن كل المسائل، الإثم والتخطية للمعتقد والقائل، ثم هو بعد ذلك يترقَّى إلى درجة الفسق والكفر، فنعوذ بالله من الزيغ الشديد، والضلال العتيد"، تم كلامه رضي الله عنه.(1/48)
ولما رأيت كلامه رضي الله عنه يحوم حول الإضراب، ويرجح إيصاد هذا الباب، وربما قال لا بأس بالجواب، قلت في نفسي: لا يحك جلدي مثل ظفري، ولا يدرك وتري مثل بتري، فبذلت في الجواب جهد المستطيع، وإن لم يدرك الضالع شأو الضليع، وسميته (نهاية التنويه في إزهاق التمويه)، وبالله أعتضد فيما أعتمد، وأعتصم فيما يضم، إنه ولي ذلك، والقادر على ما هنالك، وهذه القصيدة، ويتلوها الجواب عن كل مسألة بعينها:
[تظلّمه مما يسمع ويرى من هضم حق أهل البيت عليهم السلام]
أقاويل غي في الزمان نواجم .... وأوهام جهل بالضلال هَوَاجم
ومسترق سمعاً لآل محمدٍ .... فأين كرام بالنجوم رواجم
ومستوقد ناراً لحرب علومهم .... فأين البحار الزاخرات الخضارم
ومعترض فيهم بمخراق لاعب .... فأين السيوف الباترات الصوارم
ومجتهد في ذم قوم أكارمٍ .... فأين الأباة السابقون الأكارم
ومنتهش لحماً لهم وهو ثعلبٌ .... فأين الأسود الخادرات الضراغم
[ترجّيه لإزالة الظلم عنهم]
عسى نخوة تحمي على آل أحمد .... فقد ظهرت بغياً عليهم سخائم
عسى غاضب لله فيهم بحكمه .... يحكِّم فيه الحق فالحق حاكمُ
عسى ناظر فيهم بعين بصيرة .... وحَاكٍ لما نصت عليه الملاحمُ
عسى ناقم ثاراً لهم من عدوهم .... فذاك عدو بالمناقم ناقمُ
عسى عارف ما قال فيهم أبوهم .... فقد جهلت تلك النصوص العظائمُ
عسى سالم فيهم عداوة ناصب .... فقد فاز منها سالم ومسالمُ
عسى عادم حقداً عليهم بقلبه .... فقد قل منه اليوم من هو عادمُ
عسى صَائم من لحم أولاد حيدر .... فما شاتم من لحمهم هو صائمُ(1/49)
[شكوى من إبليس وأتباعه]
إلى الله أشكو ذنب إبليس إنه .... أهاب بقوم دينه المتقادمُ
دعاهم إليه فاستجابوا لصوته .... ولمَّا يرعهم حوبهُ المتعاظمُ
وطار بهم في قلب كل معاندٍ .... فهاهم خوافي ريشه والقوادمُ
[بيان مدى اتباعهم، وتعداد نقاط الإتباع، ومنها تحاملهم على عليٍّ عليه السلام]
حِنَاق صدور من فضائل حيدر .... يكالمهم فيها كليم مكالمُ
لهم كل يوم من كراهة فضله .... مآثم شبُّوا نارها ومآتمُ
إذا ذكر الفاروق أمست صدورهم .... مفطرة مما تكن السخائِمُ
على أنه خير البرية عن يد .... وإن ورمت منهم أنوف رواغم
يقولون لا فضلٌ له فوق غيره .... وهذا ضلال منهم متراكمُ
وهل بلغت فضل السنام مناسم .... وهل أدركت شأو البحار الكظائمُ
وإن ذكروا يوم الغدير تأولوا .... ولايته تأويل من هو ظالمُ
وتأويلهم نص الكتاب تعامياً .... على ما يداني حقدهم ويلائمُ
وقد زعموا نقض الأدلة كلها .... وأكثر من يُعزى إلى الجهل زاعمُ(1/50)