الخامسة من المفاسد
أمر الزكوات والأعشار واستيلاء أمر النواب والعمال عليها في جميع الجهات؛ وقد راجعت الإمام ومولانا علم الإسلام أيدهما الله في شأن ذلك كثيراً، وأن الفقراء الآن في كل جهة آلاف مؤلفة من أهل الفاقة والديانة والمعرفة، ما منهم إلا من يطوي أكثر أيامه جوعاً؛ وقد يحتج المستبدون من العمال بحقوق المصارف بأن إمامنا القريب المتوكل على الله [131ب] رضوان الله عليه أعطى الهاشميين منها، وذلك مقتض لجوازها عنده عليه السلام لهم.
والجواب أنا ننزه الإمام عليه السلام عن ذلك ونبرئه عن سلوك هذه المسالك؛ وهذا كلامه عليه السلام بين أيدينا مصرح بالتحريم، ناطق بأن ما صدر منه من مثل ما ذكرناه أولاً فهو على وجه الغرر ولو علمه عليه السلام لمنعه؛ وزرته عليه السلام أنا ووالدي رضوان الله عليه في شهر صفر الخير سنة اثنتين وستين وألف وهو بمحروس (حبور)، وسمعنا عليه في (الهدي النبوي) بقراءة السيد العلامة الزاهد: إبراهيم بن يحيى بن جحاف قدس الله روحه في جماعة من أعيان ذلك العصر، فجاءه في خلال مجلس له عليه السلام جماعة من جبل الشرف ممن لا تحل لهم الصدقة، فألقوا إليه أوراقاً فيها طلب شيء منها، فسمعته عليه السلام يقول: ((إن فيكم من يطلب ما لا يحل له وأنا لا أدري، فمن أعطيته منها وأنا لا أدري فكأنما أعطيته ناراً)) كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(1/452)
ومن كلامه عليه السلام في جوابه على القاضي العلامة: عبد العزيز بن محمد الضمدي رحمه الله ما لفظه : الذي عليه أدلة الكتاب والسنة، وهو المعلوم من ضرورة الدين تحريم الزكاة على بني هاشم المطهرين، لا ينكر ذلك إلا مكابر، ولا يجحده إلا جهول أو مكاثر، أو مطرح للتقوى، وعلى الشهوات والشبهات مثابر، عصمنا الله عن ذلك، وجنبنا وإياكم طرق المهالك، وهدانا[132أ]جميعاً إلى أوضح المسالك، ونحن ندين لله بذلك، ونبرأ مما خالف الحق وجانب الصدق، وليس الحلال إلا ما أحل الله، والحرام إلا ما حرم الله، وقد جهرنا للناس بذلك وكتبنا إلى الولاة والعمال، وأخبرناهم أنما يتعين لأحد بني هاشم، فإن وجدوا وجهاً يسوغ لهم سلموه إليهم، وإن لم يجدوا شيئاً من ذلك منعوه وردوه، وهو قولنا الآن ورأينا؛ ولم نقل ذلك ونفعله إلا لأنه الدين الصحيح والمذهب الصريح، ولم يخف علينا ما قاله بعض أئمتنا من جواز تأليف الهاشمي منها، ولا ما قاله آخر من جواز الاستقراض عند الحاجة، ولا ما قاله بعضهم من أن الفاسق منهم خصوصاً لزوال شرفه بفسقه يجوز تأليفه منها، ولا ما قاله خامس منهم من تحليلها إذا كانت من زكاة بعضهم لبعض لزوال العلة الباعثة على تحريمها، ولا ما قاله جميعهم من جواز افتراض الإمام لهم بماله من الولاية عليها؛ ولكنا رأينا مقصد الشارع أولى بالعناية، وأن في منعهم تنزيهاً لهم عن الشبه، ثم قال عليه السلام: وإذا ألجأتنا الحاجة -والعياذ بالله- لم نأخذ ذلك بما ذكرناه من الوجوه إلا بما وقع عليه إجماعهم من جواز الاستقراض، وبكون القضاء منهم أومن بيت مالهم؛ وسواء كان ما عداه من الأقوال صحيحة أم لا؛ لما في ذلك من الحيطة، فمن علم ذلك من مذهبنا فقد علمه، ومن لم يعلمه فهو ما ذكرناه وهذا خبره.(1/453)
الزكاة على بني هاشم[132ب]وعلى مواليهم محرمة لا تحلها حيلة، ولا يسوغها عند الله ولا عند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الشبهة الضعيفة العليلة؛ ولو كانت الشبهة واضحة صحيحة؛ لأبطلها نهي الإمام الذي له المنع من بعض المباحات الصريحة، ثم قال عليه السلام: وعلى الإمام أن لا يمنعهم من حقهم الذي سوغه الله لهم، ولا ييأسوا من فضل الله؛ فكم من مرزوق في بيته لا تعب ولا نصب: ?وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ?[الطلاق:2،3] فتقوى الله التي من أعظمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعصيان واتباع الأهواء، والاجتماع على كلمة الحق، والاعتصام بحبل الله موجب الفوز بخير الدنيا والأخرى، ثم قال عليه السلام: ومن أعظم التقوى الموجبة لرضا الله الأعلى التخلق بأخلاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نصرة الحق، والتعاون عليه، والتناصح لله فيه، وأن لا يجعلوا الدنيا أكبر همهم، ولا مبلغ علمهم، فتنتقص أعمالهم، وتبطل حسناتهم، ويكونوا من الذين خسروا الدنيا والآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين، ثم قال عليه السلام في أثناء الجواب: عموم قوله والمؤلفة قلوبهم مخصص بدليل تحريمها عليهم؛ والوجه أن كل المصارف الثمانية عام لبني هاشم، وإن لم يكن دليل تحريمها عليهم مخصصاً في المؤلفة لزم في سائر الأصناف لعدم الفارق[133أ]؛ وإذا كان كذلك بطل اختصاصهم لمشاركتهم لغيرهم في جميع الأصناف وذلك باطل؛ لأنه مهما أمكن الجمع بين الأدلة فهو المقدم عند جميع العلماء.(1/454)
ثم قال عليه السلام بعد كلام طويل: التعليل لتحريمها بالتهمة صحيح، وأما دعوى أنها زالت بموته صلى الله عليه وآله وسلم فغير مسلم؛ أما دليل صحة التعليل الأول؛ فلأن الله تعالى قد نفى عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم سؤال الأجر من المبعوث إليهم من الجن والإنس تنزيهاً له عن التهمة؛ وفي صرفها في بني هاشم مضادة لهذا التنزيه.
وأما وجه بطلان قول من قال: إنها زالت بموته فأمران:
الأول: أنها جرت عادة الناس بالسعي على أولادهم فيما يعود نفعه في حياتهم أو بعد مماتهم، بل ربما كان الحرص على طلب ما يعود عليهم بعد الممات أكثر منه في الحياة؛ وهذا موجب للتهمة ومؤكد لها في كل زمان؛ والمعاند من الكفار الذي يجب إقامة الحجة عليه مثل قوله تعالى: ?قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ?[سبأ:47] موجود في كل عصر من الأعصار.
والأمر الثاني: أن الإمامة والخلافة لا تكون إلا فيهم؛ فهم ولاة الأمر، ولا يبعدون عن التهمة إلا بتنزههم عنها، أما من يصلح للإمامة فواضح، وأما غيرهم كالنساء فلأنهم ممن يمونون؛ ولا شك أن دليل تحريمها مخصص لعموم قوله تعالى: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ?[التوبة:60] انتهى كلامه عليه السلام.
وهاهنا نكتة يحتاج التنبه لها وهو: أن الزكاة[133ب] عندنا تجب مما أخرجت الأرض في نصاب فصاعداً وهو: خمسة أو سق؛ والخلاف لزيد وأبي عبد الله الداعي وأبي حنيفة فأوجبوها في قليل ذلك وكثيره؛ والناصر عليه السلام اعتبر النصاب في البر والشعير والتمر والزبيب لا غيرها؛ والحجة للمذهب حديث أبي سعيد المتفق عليه، وحديث جابر وفيه: ((وليس فيما دون خمسة أو سق صدقة)). وفي الباب أحاديث كثيرة.(1/455)
وأما حديث معاذ: ((فيما سقت السماء والغيل والسيل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضراوات فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند أئمتنا والدارقطني والحاكم والبيهقي؛ ففي رواية إسحاق بن يحيى بن طلحة ضعيف، وبعضه عند الترمذي من حديث عيسى بن طلحة ضعيف أيضاً؛ ولو سلم فعموم؛ وخبر الأوسق خصوص، والخاص مقدم على العام عند جهل التاريخ فلا تعارض لرجحان الخاص دلالة وإسناداً؛ ولو ثبت تقدم الخاص فهو مقدم على العام على الصحيح إذ تقدمه مؤذن بأن المراد بالعموم الخصوص، ويشهد لذلك إخراج الخضراوات.(1/456)