قال ابن مظفر: وقد انعزل بمجرد الخيانة؛ وهكذا في سائر الولاة إذا خانوا؛ ووجوب امتثال ما قصده الواقف من صرف غلات الوقف فيما وقف عليه من مسجد أو غيره اتفاق في نقله إلى غيره من المساجد[128ب] مع حصول مقتضى منع النقل من إحياء وغيره ممنوع؛ وإذا كان الخلاف في اللحيق بالمسجد، حتى منع القاضي يوسف عن أبي طالب شريكه في منافع الأصل، فما الظن بغيره والمذهب جواز شريك اللحيق لاتصاله أخذاً من مفهوم حديث: ((صلاة في مسجدي هذا)) وفيه: ((ولو مد إلى (صنعاء))) ولفظه: عند ابن أبي شيبة في أخبار المدينة عن أبي هريرة مرفوعاً: ((صلاة في مسجدي هذا ولو وسع إلى (صنعاء) اليمن بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام)) وفي لفظ: ((لو مد مسجدي هذا إلى (صنعاء) كان مسجدي)). وفي سنده ضعف، وله شواهد حتى قال في (الأثمار): إلا أن يكون المستحق لأحدهما مقصوراً عليه لم يشاركه الآخر؛ لأنه يجب امتثال ما قصده الواقف والموصي ولو بالنية؛ ولذا نصوا على أن ما قصره الواقف على منفعة معينة فإنه لا يتعداها، وفيه تصريح على أن أموال المصالح لا يجوز نقلها.
قال المنصور بالله: إلا أن يفضل عن تلك المصلحة المعينة شيء ويستغنى عنه صرف في غيرها من المصارف المستحقة؛ والفرق بين نقل المصالح ونقل المصارف غير قليل؛ فنقل المصالح كجعل الطريق الموقوفة مسجداً أو مقبرة لكونه أصلح، وهذا لا يختص بالواقف على الصحيح، بل أهل الولاية؛ وأما جعل المسجد طريقاً فمخصوص بالإجماع على منعه، والخلاف في جواز[129أ]نقل المصالح لجماعة من أهل المذهب، والجمهور على جوازه لأدلته.
وأما نقل المصارف ففيه خلاف: فأئمتنا المتأخرون أنه لا يجوز ذلك للواقف ولا لغيره، ونصوص الأئمة تقتضيه، وذكره الفقيه يوسف للمذهب.(1/447)
وذكر علي خليل وأبو مضر، والأمير الحسين، والمنصور بالله وغيرهم: أنه يجوز للواقف لا لغيره، وذكر بعض المتأخرين قولاً ثالثاً: وهو الجواز عند تحقق المصلحة التي تتنيف على مصلحة المنقول عنه، ولا يتحقق إلا عند خلوه عما يقصد بالوقف من الإحياء والعمارة، وقال الفقيه محمد بن سليمان: لا أعرف نصاً لأحد من أهل البيت على جواز نقل المصارف إلا ما خرجه علي خليل وأبو مضر.
وأما نقل أموال المصالح، كأموال المساجد توضع في مصلحة كالعلم والجهاد ففيه قولان لأصحابنا المتأخرين: أحدهما: عدم الجواز لإنكار أمير المؤمنين على عمر حين هم بأخذ مال الكعبة من حلي وكسوة للجهاد.
قال الفقيه يوسف: وهو الظاهر من المذهب.
والآخر: الجواز لنقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هدي عمرته إلى الإخصاب، ونقل هدي تطوعه في حجه إلى واجب علي عليه السلام وهو هديه للقرآن؛ وأجيب بالفرق؛ إذ المصرف في الهدي واحد بخلاف ما نحن فيه، وهذا -أعني القول بجواز نقل المصلحة- مشروط بأن لا يلحق المنقول منها ضرر[129ب]لا مطلقاً كما ذكره ابن مظفر وغيره.(1/448)
أما مع حصول الضرر، ومنه إماتة إحياء الموقوف عليه، وإهمال مصارفه؛ فنقله إلى مصلحة أخرى ممنوع بالأدلة الكلية؛ إذ لا مصلحة مع مفسدة راجحة أو مساوية كما عرفته غير مرة. هذا كله مع كون المنقول إليه مصلحة، أما ما صار الأمر عليه في هذه الأزمنة من استيلاء نواب الوقف على غلات أوقاف المساجد، والجوامع، والطرق، والمناهل وغيرها بحيث يقصدون إلى كل هجرة من الهجر المعمورة بخزائن علوم آل محمد صلوات الله عليهم وإلى كل بلدة من بلدان سائر الجهات، فيجمعون متحصل غلات أوقافها، وينتزعونه من بين أيدي عمار المساجد، ويقصدون به أسواق الجهة وأهل الأسباب منها فيبيعونه منهم بدون السعر القائم؛ حرصاً على استهلاكه قبل ظهور نهي الناهين، وزجر الزاجرين لهم من فضلاء العصر، وأرباب النهي والأمر، وإذا جاء المصرف من حملة العلم الشريف واقتضاء ما هو له بنص الواقف وقصده أعرضوا عنه صفحاً، وطووا عما طلبه كشحاً، ورأوا ما طلبه منكراً لا أصل له بزعمهم في الشريعة؛ وكلما أراد الطلبة والمحيون الأحياء على شيء من غلات مساجدهم اعتلوا عليهم بالعادة التي تقدم الكلام في شيء من مفاسدها وقالوا: جرت العادة في هذه الأزمنة بأنه لا إحياء على غلات أوقاف المساجد فيها؛ فإذا احتج عليهم بأن العادة الصحيحة[130أ] المطابقة للشريعة المطهرة أعزها الله تعالى في أزمنة الأئمة السابقين قضت بإحياء المساجد والجوامع على حقوقها في كل هجرة وبكل بلدة، بحيث لا ينكر ذلك إلا من لاحظ له في الخير، أجابوا بأن كل عادة خالفت ما جرت به العادة آخر مدة الإمام رضوان الله عليه فهي شريعة منسوخة؛ ويعنون بذلك آخر مدة الإمام المتوكل على الله رضوان الله عليه وهي سني الشدة التي استولى فيها العمال والنواب على متحصل الحقوق، مع تتابع الآلام على الإمام صلوات الله عليه الذي تذهل عن معرفة ما بعد عنه من الأمور.(1/449)
ولما انتهى نواب وقف الجهة الشرفية إلى إمام عصرنا المؤيد بالله أيده الله وإلى حضرة أخيه وابن عمه مولانا: القاسم بن أمير المؤمنين المؤيد بالله أيده الله أمرهم الإمام بإصلاح عين الوقف أولاً والموقوف عليه، وكفاية مؤذنه، ومقيمه، وراتبه، ومعلم القرآن فيه وفرشه وتسريجه، ثم التدريس والإحياء وتسليم ما قرر فيه المصلحة من الباقي بعد الأمور المذكورة أولاً، فكان فيما ذكره نواب الوقف للإمام [عليه السلام] عند ذكر التدريس والإحياء أن قالوا: حسب العادة؛ وأرادوا بهذا مفاسد كثيرة أعظمها اجتحاف حقوق المساجد والطرق والمناهل بذلك؛ لأن العادة جرت لهم باجتحافها بعد أن جعلوا في موضعين في هذه الجهات من يدرس في شيء من مختصرات الفقه على من يحتاج في نفسه إلى الطلب لقصوره[130ب]، ويجعلون هذا وسيلة إلى انتهاب الحقوق على سعتها ونقلها لأنفسهم؛ فإذا جاء أهل المساجد والجوامع في جميع هجر الجهة إليهم، وطلبوا الإحياء على حقوق مساجدهم أعرضوا عنهم، واحتجوا عليهم بما شرطوه على الإمام من الجري على العادة وهي اجتحاف الحقوق، وإماتة الهجر بسبب ما جعلوه وسيلة إلى ذلك، وحيلة على أخذه، وهو جعل من يدرس ممن مضت صفتهم في موضعين نائيين عن هجر العلم المعروفة بعيدين من مواضع الطلبة، وفي خلال هذا يرسلون عمالهم إلى الشركاء في الأوقاف على كثرتها واتساع غلاتها من بن وبر وذرة وعنب وخضروات وغيرها؛ وقد يبادرون إلى بيعها قبل قبضها منهم خوفاً مما ذكرناه أولاً، وكنت راجعت الإمام عليه السلام في أخذ مثل هؤلاء لمقررات متسعة مأخوذة من الأئمة على وجه الغرر من عين الوقف، وأنه هل يكون إذن الإمام محللاً لهم أو مشروطاً من حيث المعنى بكونه فضلة، ويكون أخذه ممن فيه مصلحة، إن كان الثاني فلا فضلة والأمر كما ذكرناه أولاً من إماتة المساجد والجوامع، ومنع عمارها، والمحيين فيها عن تناول ما هو حق لهم من حقوقها؛ وإن كان الأول فالمعلوم من قصد إمامنا أيده(1/450)
الله خلافه كما شافهنا به عند اجتماعنا به في (السودة) المحروسة، وعلى الأمرين جميعاً فأخذهم لهذه المقررات من عين الوقف أولاً، ثم تحيلهم[131أ] على أخذ الباقي بما ذكرناه ثانياً محرم شرعاً بحيث لا نعلم قائلاً من الأئمة وعلماء الأمة بجوازه؛ ولما راجعته أيده الله بذلك جاء جوابه الكريم مصرحاً بوجوب الافتقاد لذلك ولغيره من المفاسد المذكورة أولاً بعد الفراغ من أعمال البغاة في جهة الشرق، وأنه عليه السلام وجه الجنود المنصورة إليه لإصلاحه بعد خروج أهله عن الطاعة لأسباب يطول شرحها؛ وفي خلال ذلك وقع من بعض زعمائها نكث وغدر أوجب استنفار الإمام أيده الله للناس إلى الجهاد، وخروج مولانا إمام علماء العترة الأعلام القاسم بن أمير المؤمنين أيده الله إلى السودة المحروسة امتثالاً لأمر الإمام [عليه السلام] واستنفر الناس من جميع الجهات، ووجههم صحبة ولده السيد الجليل: علي بن القاسم بن الإمام في جماعة موفورة، وعند رقم هذه وهم الجميع برداع العرش ينتظرون ما يقضي به نظر الإمام أيده الله.(1/451)