قال الشافعي: (لا يجب الإيصال)، وإنما يجب على الإمام بعث السعاة؛ لأنه لو وجب سقط سهم العامل لعدم الحاجة إليه؛ ولأن القول بوجوبها في المال بحكم الشركة قاضٍ بأنه لا يجب على الشريك إيصال نصيب شريكه؛ ولئن سلم فقبض الساعي لها نيابة عن الإمام مسقط لوجوبها وهو موضع اتفاق؛ وإذا تتبعنا ما جاءت به السنة علمنا أنه لم يؤخذ ممن أدى الزكاة إلى سعاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء غيرها فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث السعاة لقبضها من أربابها عن أئمتنا والصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث عمر على الصدقة، واستعمل عليها رجلاً من الأزد.
وعندهم وأبي داود أنه بعث أبا مسعود ساعياً.
وعند أحمد أنه بعث أبا جهم بن خزيمة مصدقاً، وبعث عقبة بن عامر ساعياً، والضحاك بن قيس أيضاً ساعياً.
وفي (المستدرك) أنه بعث قيس بن سعد ساعياً، وفيه من حديث عبادة بن الصامت أنه بعثه ساعياً على الصدقات، وبعث الوليد بن عقبة على بني المصطلق وغير ذلك مما بلغ التواتر المعنوي، والإجماع على أنهم لم يأخذوا غير ما فرضه الله سبحانه ورسوله من الزكاة هذا كله على تقدير أن مؤونة الإيصال المدعي وجوبها موصل إلى مصارف الزكاة.(1/437)


أما في مقامنا هذا فهذه السياقة المنافية لأمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع الأئمة والأمة لا يصير منها إلى المصارف شيء، بل يأخذها نائب الجهة ويأكلها مع أولها إلى مال جسيم ينيف على نصف ثمرة الزكاة بشيء كثير في الجهات التي لا يباشر هذا المستبد بها شيئاً من قبض الزكاة من أربابها، بل السعاة والعمال عليها غيره[124ب] ولقد أنقذ الله المصارف من أكل هذه السياقات المحرمة؛ ولو أكلوا شيئاً منها لأكلوا النار؛ لقطعية تحريم مال المسلم وهي منه؛ ولو نالوا من الزكاة شيئاً لكانوا قد أوتوا حظاً مما فرضه الله في كتابه، ولكن الولاة والعمال قد استبدوا بحقوقهم، وأكلوها دونهم مع استغنائهم عنها، وعدم حصول ضرورة تبيح لهم الاستبداد بها، ومع هذا فالفقراء يموتون في الطرق جوعاً بحيث لو سألوهم منها مداً واحداً لانتهروهم، ورأوا سؤالهم إياه منكراً يجب نهيه، وإذا رأوا أولياء الأمر من الأئمة يصلون الفقير بشيء من حقه بواسطة نظير أو غيره وجهوا اللوم إلى فاعل النظير، وأوهموه اختلال العادة التي باختلالها يختل نظام الأمر، وسعوا في حرمان ذلك الفقير ومنعه؛ وهذه مفسدة جرت بها عادة العمال، وأكلوا بها الأموال، وخالفوا بها مراد ذي الجلال، وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.(1/438)


[مفسدة أخرى: الهدايا المحرمة]
ومنها ما تعودوه من أخذ الهدايا المحرمة عليهم وقعدوه لأنفسهم في مواقيت من العام بواسطة عرفاء الجهة مع ما تعودوا أخذه من عين مال المسلم المحرم من الأمور التي يسمونها شائباً، يعسفون ضعفاء الرعية في أخذه، ويكلفون فقراء المسلمين بتسليمه، ويسلطون عسكر عامل الجهة إن عجزوا عنه حتى يأتوا به؛ وهذا مما ورد النص بتحريمه.
أخرج أئمتنا والشيخان وأبو داود من حديث أبي حميد الساعدي أنه صلى الله عليه وآله وسلم استعمل رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللبتية –بضم اللام بعدها موحدة[125ب]ساكنة، ثم تاء فوقية مفتوحة وهي أمة؛ فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي؛ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى بحمله يوم القيامة، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه يقول: اللهم هل بلغت)). وتيعر بمثناة فوقية مفتوحة، ثم ياء مثناة تحتية ساكنة بعدها مهملة مفتوحة، واليعار صوت الشاة؛ وعلة التحريم إنها إنما تكون إلى الولاة طمعاً في عدلهم أو خوفاً من جورهم، فهي في مقابلة واجب أو تركه محظور، وذلك من الرشوة المحرمة، وما أخذ منها بهذه الصفة لا يسوغه إذن الإمام إجماعاً، ولا يحل أخذه إلى بيت مال المسلمين ولو أذن الإمام؛ وإنما يصير بيت مال منها ما جاء إلى العامل عفواً لا في مقابلة واجب ولا دفع محظور؛ وهذا هو الذي يسوغه إذن الإمام عند البعض، ولا وجود له في هذه الأزمنة أصلاً، فتحريم الأخذ الآن إجماع.(1/439)


وأما قبول النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] للهدايا فإن كانت من كافر كهدايا المقوقس وغيره فكالغنيمة؛ لأنها مأخوذة بالرعب والمهابة، وإن كانت من مسلم فالمسلم آمن من جور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترك واجب أو فعل محظور؛ وإنما يهدى إليه للتبرك، ومثله الإمام العادل القائم مقام النبي[125ب] صلى الله عليه وآله وسلم وما عدا ذلك سحتٌ محرم؛ وما زال العمال يتسلقون إلى أخذ إذن من الأئمة على جهة الغرر في قبول الهدايا، فيجعلون الرعية متجراً لهم بواسطة العرفاء في مواقيتٍ معروفة يأتونهم بها فيها، ومن تأخر عنها أضمروا له سوء المعاملة، ومتى وجدوا فرصة وجهوا إليه كل مضرة؛ وهذه حبالة لهم إلى أكل أموال الناس بالباطل؛ فكيف يصير إذن الإمام محللاً لما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الرشوة التي يأكل النار من أخذها، موهماً لإمام الحق وصولها إليه عفواً، ومصيرها إلى بيت مال المسلمين بإيصال العامل شيئاً يسيراً منها إليه؛ وحكم ما أخذه العامل مما هذا سبيله أنه رشوة محرمة يجب ردها إلى مالكها إن علم؛ وإلا فمظلمة يتعين صرفها في أهلها.(1/440)


[مفسدة أخرى]
ومنها: ما تعودوه من نزول العامل على من يأخذ منه الزكاة؛ وهو محرم شرعاً نص عليه الهادي [عليه السلام]لحديث: ((لا يحل لعبد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقف مواقف التهم)). عند أئمتنا وجار الله في (الكشاف) ورواه الخرائطي عن عمر؛ ولأن العمال جعلوا ذلك سبباً لأكل أموال الناس بالباطل أيضاً، خصوصاً في هذه الأزمنة التي استعمل فيها على الزكاة من لا يحترم مال مسلم، فإذا نزل بقوم جعله عرفاءهم سبباً لأكل أموالهم؛ فإن العرفاء يتوسعون في ضيافة العامل بما لا يحل في الضيافة المشروعة لغيره ممن تحل له الضيافة بالنظر إلى ما يؤول إليه أخذها من فقراء المؤمنين وفرقها عليهم، وأخذها كرهاً منهم وهم لا يجدون قوت يومهم؛ وإلا سلط عليهم من يعسفهم، وقد يتوهم جواز النزول عليهم بموجب[126أ]حديث جرير بلفظ: ((إذا أتاكم المصدق فليصدر عنكم وهو راضٍ)). عند الجماعة إلا البخاري والموطأ.
وحديث جابر بن عيتك عند أبي داود بلفظ: ((سيأتيكم ركيب مبغضون، فإذا جاؤوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليهم، وارضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم)) فيظن جواز النزول بهم للضيافة من قوله: ((فليصدر عنكم وهو راضٍ)) ومن قوله: ((فرحبوا بهم)). ومقصود الحديثين غير ما فهمه منهما:
أما الأول: فالمراد بإرضائهم التخلية بينهم وبين أخذ الواجب من غير غشٍ، بإخفاء ما تجب فيه الزكاة، وبترك إظهار الكراهة التي لا يتم بها رضاهم عنهم كما هو صريح قوله: ((فليصدر عنكم وهو راضٍ)).
وأما الترحيب فمقتضاه ما ذكر من محبة وفودهم لاستيفاء الواجب على الوجه الذي لا كراهة فيه لهم.(1/441)

88 / 95
ع
En
A+
A-