وأما الاستدلال بمجرد الأخذ في زمن الإمامين وأخيهما الحسين بن القاسم رضوان الله عليهم فغير مبيح لمال المسلم ولا محلل له؛ إذ ليس من الأدلة الشرعية مع فقد إجماع العترة كما مر، بل الذي ينبغي هو حسن الظن بالأئمة عليهم السلام كما هو الواجب على كل مؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا الاستدلال به على الشرعيات، وإلا لزم وجوب العمل بفعل[121ب]كل إمام، وقوله: مع كثرة تضاد اجتهادات الأئمة عليهم السلام ومذاهبهم في الشرعيات وذلك تكليف ما لا يطاق؛ ألا ترى إلى ما قدمنا قريباً عن المؤيد بالله وغيره من أن الكفار لا يملكون علينا ما أدخلوه دارهم قهراً وإلى ما ذكرناه عن أبي طالب ومن معه من كونهم يملكون علينا ما أدخلوه دارهم قهراً؛ فإنا لو أوجبنا العمل بقول كل إمام لوجب علينا أن نعمل بمقتضى المذهبين، وهو ملك الكفار لما نقلوه إلى دارهم قهراً، وعدم ملكهم وهو تكليف بالنقيضين؛ وهكذا في غيره من المسائل، فاعرفه واحمل ما جاءك عن آحاد الأئمة عليهم السلام على الاجتهاد؛ فإن كنت من أهل الاجتهاد رجحت بين الأقوال بمقتضى ما رجح من الأدلة، وإن كنت من أهل التقليد فإن كان ما قال به أحد الأئمة مما يسوغ فيه التقليد فلا حرج عليك في تقليده والعهدة عليه، وإن كان مما لا يسوغ فيه التقليد كأخذ مال المسلم المعلوم تحريمه من ضرورة الدين فلا، ومعنى حسن الظن بالمجتهدين هو أن يقال: حال المجتهد مترددة بين خطأ في الاجتهاد والأخذ من الدليل، وبين أن يكون ما أخذه من دليل يراه حجة دون غيره من المجتهدين؛ وذلك لا يقتضي وجوب العمل بما أداه إليه اجتهاده؛ ومن هذا تأويل الراوي لما رواه أو تخصيصه به، فإنه لا يجب العمل بتأويله وتخصيصه إلا عند بعض الحنفية[122أ]ولذا حملوا رواية أبي حنفية في الغسل من ولوغ الكلب سبعاً من الندب؛ لأن أبا هريرة كان يقتصر على الثلاث، قالوا: لأن المشاهد للنبي صلى الله عليه [وآله وسلم] أعرف بمقاصده، وأجيب(1/432)
بأن الاجتهاد في الصحابة شائع، والخطأ عليهم جائز فلا نخالف بأقوالهم وأفعالهم ظاهر السنة، وفصل عبد الجبار وأبو الحسين، فأوجبوا العمل بما لم يكن معرفة وجهه مما خالف به الصحابي روايته، ومنعه الأصوليون للزوم مثله في أكابر التابعين والفقهاء وآحاد الأئمة، والإجماع على خلافه فيهم.
وأما قول هذا النائب أنهم أرادوا تخليص الخلق من الواجبات المغلولة، واستدل على ذلك برجل لم يؤد زكاة ماله ما ظهر له من المال؛ فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يشتغل بالجواب عنه؛ لما علم من قطعية تحريم مال المسلم؛ ولئن اشتغلنا بالجواب عنه قلنا: هذا باطل من وجوه:
أما أولاً: فلأنه نقضٌ لدعوى كونه خراجاً؛ لأن الخراج على فرض تسليمه من الأمور المستحقة للإمام والمسلمين، فلا تخليص فيه لغلول أحد ممن تواتر غلوله أو علم بأي طرق العلم.
وأما ثانياً: فلأن التضمين من غير طريقٍ قطعيةٍ بجوازه مملا يسوغه آحاد المسلمين فضلاً عن أئمتهم كما عرفت أول الباب.
وأما ثالثاً: فلأنه إذا كان تخليصاً للغال من غلوله فما باله يؤخذ ممن علمنا إيمانه وثقته وديانته من المؤمنين المؤدين للواجبات[122ب] المجتنبين للمقبحات، الذين يخافون الله كأنهم يرونه، ومن فقراء المؤمنين الذين لم يملكوا ما يتسبب عنه الغلول.(1/433)
وأما رابعاً: فالاستدلال بغلول هذا الرجل وتمرده عن فعل الواجب، على أن سائر المؤمنين مثله في الغلول مما لا ينبغي الاستدلال به على تحليل مال مسلم، أو يجعل طريقاً للعمال إلى انتهابهم ومصادرتهم، وانتهاك أعراضهم، وأموالهم، إذن للزم أنه إذا ظهر كفر رجل في قرية أو قطرٍ، أو فسقه، أو خيانته، أو كذبه، أو ارتكابه لشهادة زورٍ أو غيرها من الكبائر أن نحكم على أهل ذلك القطر، أو القرية جميعاً بما حكمنا به عليه من الكفر أو الفسق، أو الخيانة، أو الكذب، أو ارتكاب شهادة الزور أو غيرها من الكبائر، وهذا مصادم للنصوص، ومخالف لإجماع المسلمين؛ وإذا كنا نمنع مفهوم اللقب والاستدلال به على إثبات خلاف المذكور أو نفيه فكيف بمثل هذا المفهوم، وإثبات ما لا علاقة للمفهوم به مثل الحكم المذكور؛ فإنا إذا تحققنا غلول أحد وعلمناه فقلنا: فلان غال، امتنع أن تقول: وأهل بلده أو جهته إذن غالون؛ لأن غلوله وخيانته أمر مختص به لا يتعدى إلى أحد غيره إلا بدليل يوجب العلم بثبوت مثل حكمه فيه.(1/434)
[المفسدة الثالثة]
الثالثة من المفاسد التي ينبغي إهمالها والتيقظ لمراد المحتج بها من العمال وغيرهم ما صاروا يأخذونه من الأئمة وأبناء الأئمة من الشيم المحالة على العادة، وما يلقنونه ولاة الأمر الكبار حتى الأئمة في مبادئ أمرهم[123أ] من إجراء الناس على العادة في جميع أمورهم موهمين للأئمة أنهم يريدون بذلك نظم أمور الخلق وصونها عن الاختلال، وأنهم لا يريدون بهذه العادة إلا ما جرى عليه الأئمة السابقون وجاءت به الشريعة في جميع القرون؛ وهذه من المفاسد التي عم ضررها الدين والدنيا، واجتحفت بها أموال الله وأكلها غير أهلها، وخولف بها نص الله في كتابه الكريم، وما كان عليه نبيه الأمين والأئمة من عترته المطهرين –صلوات الله عليهم أجمعين- وهي أصل هذه المفاسد التي ذكرنا شيئاً منها ونذكر ما بقي منها -إن شاء الله- وهي أيضاً العذر للأئمة عليهم السلام في سكوتهم عما جرت به هذه العادة من هذه المفاسد حتى ظن كثيرون رضا الأئمة بها، وتقريرهم لها؛ ومفاسد هذه العادة التي بالغ العمال في ثبوتها كثيرة، منها: أن العمال قد أحدثوا لأنفسهم -على وجه الغرر للأئمة السابقين- أموراً عظيمة من أموال الله سبحانه يأخذونها من عين الزكاة المحرمة لهم ولمن يلوذ بهم، جرت عادتهم بسبب نيابتهم في الجهات التي هم فيها بأخذها منها، وهذه العادة التي تعودوها مما لا ينازعهم فيها منازع لمكان عمالتهم؛ فإذا أحالوا ما يأخذونه من الشيم على هذه العادة ففي طي ذلك اجتحاف أموال الفقراء والمساكين، واستغراق ما فرضه الله لثمانية الأصناف من الزكوات والأعشار وغيرها؛ والعادة هذه التي يدعونها تقضي لهم بأخذ ذلك كله مقدماً على[123ب]جميع الأمور والوظائف، وهذه مفسدة مخالفة لما أمر الله به في كتابه، ولما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده من الأئمة الهادين عليهم السلام ولو علم به من صدرت عنهم تلك الشيم من الأئمة عليهم السلام لأنكروه(1/435)
وحرموه ونهوا عنه، ومنها ما تعودوه مما ضربوه على المسلمين لأنفسهم زائد على ما فرضه الله عليهم مما يسمونه السياقة يأخذونه مع الزكاة المفروضة إذا نسب إليها جاء مثل ثمنها في بعض الجهات، ومثل نصف ثمنها في بعضها، وتهوروا في ذلك حتى صاروا يأخذونها زائداً على آدابهم ونفائعهم التي يأخذونها من المسلمين على الوجه الذي سبق أول الكتاب، وهي مثل نصف عشر ما يعاقبون به من المال.
ومن الغرائب ما وقع لبعض العوام من إفتاء الولاة والنواب في تحليل هذه السياقة التي هي غير مال المسلم المحرم من كونها في مقابل الإيصال؛ ولم يدر ما المراد بالإيصال، فإنه عبارة عن أمر الإمام للمزكي بإيصال زكاته إليه.
والمذهب وجوب الإيصال عليه إن طلب ولم يبعث الإمام السعاة في طلبها، أما إذا بعث السعاة في طلب الزكاة فالإجماع على أنه لا يجب على المزكي إلا تأديتها إليهم، فإذا أداها إليهم سقط وجوب الإيصال؛ لأن آية إيتاء الزكاة مجملة بينها فعله صلى الله عليه وآله وسلم ببعث السعاة وبحديث: ((لا جلب ولا جنب…الحديث)) وفيه ((ولا تؤخذ إلا في دورهم)) وهو صريح في نفي وجوب الإيصال عند بعث السعاة، ومعنى لا جلب: أنه لا يجب عليهم جمعها إلى موضع المصدق، ولا جنب: أي ولا يتعدوا بها إلى الأماكن البعيدة ولذا [124أ].(1/436)