وأما قول السيد رحمه الله في تعليقته على جوابنا عليه أن لفظ أصحابنا من ألفاظ العموم الواقع حقيقة على كل فردٍ، فقد أجبنا عليه بأنه إن أراد أن لفظ أصحابنا من ألفاظ العموم...إلخ أن دلالة أصحابنا على البعض المعين وهو أبو مضر دلالة مطابقة فغير صحيح؛ لأنها دلالة اللفظ على تمام مسماه من حيث هو موضوع له، وهي هنا لم تدل دلالة مطابقية بشرطها المذكور؛ لأن لفظ أصحابنا صيغة عموم مسماها كلية وهي الحكم على كل فرد منهم بحيث لا يبقى فرد من الأفراد، كقولنا: كل رجل يشبعه رغيفان غالباً كذلك، ومقابل الكلية[119أ]إنما هو الجزئية، وهي الحكم على بعض أفراد غير معين، كقولنا: بعض الحيوان إنسان؛ فحينئذ دلالة أصحابنا على أبي مضر ليست مطابقة لما ذكرناه ولا التزاماً وهو واضح، ولا تضمناً؛ لأنها دلالة اللفظ على جزء مسماه من حيث هو مسماه كما عرفت؛ وأبو مضر جزء لا جزئية، والجزء إنما يقابله الكل لا الكلية التي هي صيغة العموم المذكورة، ولو كانت كلاً أو كلياً كما توهمه بعض شراح (ايساغوجي) لتعذر الاستدلال بها على ثبوت حكمها لفرد في النفي أو النهي، فإنه لا يلزم من نفي المجموع نفي جزئيه، ولا من النهي عن المجموع النهي عن جزئيه، فيلزم من جعل صيغة العموم لبعض مسمياته القول بدلالة خارجة على الثلاث؛ يوضح ذلك الفرق بين الكلي والكلية والكل، والجزئي والجزئية والجزء؛ وهو أن الكلي يشترك في مفهومه كثيرون، كالإنسان والجزئي مقابله، والكلية الحكم على كل فرد من الأفراد بحيث لا يبقى فرد من الأفراد كما مر، ومقابلها الجزئية وقد مرت.(1/427)
وأما الكل فهو الحكم على المجمع من حيث هو مجموع كأسماء العدو، وكقولنا كل رجل يحمل الصخرة العظيمة فهذا صادق باعتبار الكل دون الكلية، ويقابله الجزء وهو ما تركب منه ومن غيره كل كالخمسة مع العشرة لا يقال عموم الجمع المعروف والمضاف، إن دخل على اسمٍ عَمَّ المفردات، وإن دخل على الجمع عمَّ الجموع؛ لأن أول الإضافة يعمان أفراد ما دخلا عليه وقد دخلت على جمع؛ وفائدة هذا أنه يتعذر[119ب] الاستدلال في حالة النفي والنهي على ثبوت حكمه لمفرد؛ لأنه إنما حصل النفي والنهي عن أفراد المجموع؛ والواحد ليس بجمع وهو معنى قولهم: لا يلزم من نفي المجموع نفي كل فرد، ولا من النهي عنه النهي عن كل فرد، وهذا يعارض إطلاقهم؛ كون العموم من باب الكلية، فإن معناه ثبوته لكل فرد سواء كانت نفياً أم لا كما ذكرت؛ لأنا نقول: لا تنافي بينهما، فإنا قد أثبتنا لكل فرد من أفراد ما دخلت عليه وهو الجموع.
وهذا المبحث نفيسٌ، فإن أئمة الأصول لم يتفقوا في دلالة العموم على طريق؛ فتارة يجعلونها من دلالة الكلي على جزئياته؛ وهذه دلالة المطلق، وتارة يجعلونها من دلالة الكل على أجزائه؛ وهذه دلالة المقيد كالأعلام؛ فلزمهم مضائق كثيرة.
ولما قال ابن الحاجب في (العضد) وسعد الدين وغيرهم: إنها من دلالة الكلي على جزئياته، حاولوا الفرق بين هذا وبين دلالة المطلق، بأن دلالة العموم بمثابة تعدد أقوال تعدد أفراده، وأن المطلق ما دل على شائع أي فرد، فليس بكلي بل جزئي؛ ورجال في الجمع كرجل في الواحد إن متحد اللفظ والمعنى، ولا يتم ما ذكروه بالنظر إلى ما قدمناه.
فإن قلت: ذكر الكلية بين الكل والكلي مما لا ينبغي؛ لأن الكلية التي تقدم ذكرها عبارة عن قضية منسوب حكمها إلى الكل، كما أن الجزئية عبارة عن قضية[120أ]منسوب حكمها إلى الجزء.(1/428)
قلت: اللفظ العام إنما يقصد عمومه بالنسبة إلى الحكم المنسوب إليه؛ فالقضية إذن كلية، ولا اعتبار لعموم اللفظ بدونها؛ إذ لو تجرد عن الحكم المنسوب إليه لكان من الألفاظ التي لا يحكم عليها بعمومٍ ولا خصوصٍ؛ فاللفظ العام بدون الحكم المنسوب إليه ليس بعامٍ؛ وكون عموم الحكم إنما يحصل بالقرائن لدلالة المحمول، كما في: (ثمرة خير من جرادةٍ) وكذا خصوصه، كما في (أكله الذئب) غير منافٍ لما ذكرناه عند التأمل، والنزاع إنما هو في عموم اللفظ المنسوب إليه الحكم، لا في عموم الحكم وحده، ولا في عموم اللفظ من دونه فليتأمل؛ وإذا لاحظت معنى قولهم ما دل على مسميات باعتبار أمرٍ اشتركت فيه، ولاحظت معنى الدلالة، عرفت ما أردناه؛ لأن الدلالة لا تكون مقيدة إلا باعتبار الحكم المنسوب إليه لا حالة الانفراد عنه.
ثم سقنا الكلام في جوابنا على السيد رحمه الله بما لو سقناه هنا لطال الكلام فيه؛ وإنما أوردناه هنا تنبيهاً لمن أراد التحقيق على ما عليه أئمتنا، وذهاب بعضهم إلى أن الكفار لا يملكون علينا إلا ما أدخلوه دارهم قهراً دون الأراضي والدور مما لا ينقل.
وآخرون إلى أنهم لا يملكون علينا مطلقاً، سواءً نقلوه أو لا كما ذكرناه آنفاً، وأن الأرض العشرية مما لا يجوز ضربُ الخراجِ عليها باستيلاء كفار التأويل؛ لأنهم لا يملكوها بطريق من الطرق ومجرد الولاية لا تفيد الملك إجماعاً[120ب] فالمعلوم ثبوت أيدي المسلمين على أملاكهم مدة ولايتهم؛ وقد سمعت حكم مال المسلم في دار الحرب الأصلية، وأنه لا يستباح مهما بقي ثابت اليد عليه، فكيف بمال المسلم في الأرض العشرية الثابتةُ يده عليه، ومن نسب هذا إلى أكابر الأئمة فقد أتى في التقصير من قبل نفسه.(1/429)
قال المنصور بالله: عبد الله بن حمزة عليه السلام في عهده إلى من بلغه من المسلمين بعد ذكر أحكام كثير ما لفظه: (ويتبع ذلك أموال الصلح والخراج، وليس لمال الصلح حد يوقف عليه إلا ما كان لأهل (نجران) و(بني تغلب) وساق الكلام فيه حتى قال: (وذلك فيما خلا (جزيرة العرب) وهي من المشارق إلى (عدن) ومن (عمان) إلى (جده) مساحة على ما حكى أهل العلم مائتا مرحلة من صدر (أيلة) إلى (عمان)، وفي (جزيرة العرب) من أرض الصلح (نجران) وقد حال حالها وحيل صلحها لهلاك أهل كتابها، ورجوع أكثر أموالها إلى المسلمين، فرجعت أكثر أحكامها إسلامية). انتهى.
وقال السيد صارم الدين رحمه الله في كتاب (الخمس من الهداية) ما لفظه: (وكل أرض أسلم أهلها طوعاً كاليمن، أو أحياها مسلم فعشرية، وجاعلها خراجية مبتدع). انتهى. قال في هامشها: قال الجندي والخزرجي وغيرهما من المؤرخين: إن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب لما استولى على ملك اليمن دعته نفسه إلى شراء أرضهم حيث كانت، فندب المثمنين إلى سائر البلاد بأسرها لتكون أرض اليمن ملكاً للديوان، ويكون من أراد حرث شيء منها وصل إلى أهل الديوان فاستأجره منهم، كما في ديار (مصر)[121أ]وغيرها من أرض الخراج، فشق على أهل اليمن، واجتمع جماعة من الصالحين واتفقوا على أن يدخلوا مسجداً، ولا يخرجوا حتى تقضى الحاجة، فأقاموا فيه ثلاثاً صياماً بالنهار، قياماً بالليل، وفي اليوم الرابع خرج أحدهم في السحر ونادى بصوت عالٍ وقال: (يا سلطان السماء، اكفي المسلمين سلطان الأرض)، فقال له أصحابه: قليلاً قليلاً فقد قضيت الحاجة وحق المعبود قالوا: وكيف ذلك؟(1/430)
قال سمعت قارئاً يقرأ: ?قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ?[يوسف:41] ويقال: إن أحدهم خرج في اليوم الثالث فذكر الله سبحانه وقال لأصحابه: أبشروا فقد قضيت الحاجة. قالوا: بم علمت ؟ قال: (رأيت السلطان سيف الإسلام بارزاً، وسهام تأتيه من نواحٍ شتى، فأصابه شيء منها فوقع ميتاً فلا تشكوا في موته) فلما كان وقت الظهر في ذلك اليوم وهو يوم الأربعاء السادس والعشرين من شوال سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة توفي وقد شرع المثمنون، فبطل ذلك الأمر كله ولم يعتمد أحد من الملوك قبله ولا بعده ذلك). انتهى.
والأمر كما ذكره السيد صارم الدين وعلى ذلك مضى جميع الأئمة الهادين.(1/431)