وأما إذا استولى الكفار على أملاك المسلمين في دار الحرب فإنهم لا يملكون كما ذكره أبو طالب للهادي [عليه السلام] والنفس الزكية وأبي حنيفة؛ لأنها دار إباحة فالملك فيها غير حقيقي، وعن أبي طالب في أحد قوليه، ومالك وأبي يوسف ومحمد أنهم يملكون، فلا حق للمسلم فيه قبل القسمة ولا بعدها.
قال أصحابنا: يملك كل في دار الحرب ما ثبتت يده عليه من آدمي أو غيره بقهر أو حكم؛ لكونه في معنى القهر لا لصحة الحكم في نفسه. قال الفقيه يوسف: والملك هنا مجازي، فحيث دفع هنا عوض[116ب] في مقابلة التمكين كان كالأجرة، وقال الإمام شرف الدين: بل حقيقي ولو كان المستولي والداً فإنه يملك ولده حقيقة فيصح منه بيعه.
وأما كونه لا يعتق عليه فحكم خاص بدار الحرب، ولا يمنع ذلك كونه يصح من الكافر عتقه؛ وهذا الكلام فيما بينهم.
وأما أموال المسلمين: فحكمها ما تقدم. قال في (شرح الأثمار): وظاهر عبارة (الأزهار) توهم أن دار الحرب دار إباحة مطلقاً، سواءً كان المال لمسلم أم لكافر، وسواءً ثبتت عليه يد مسلم أم كافر، وتوهم أنه يجوز أن يستباح ويملك مال المسلم الذي في دار الحرب، وأن مال المسلم وغيره في دار الحرب إذا لم يكن عليه يدٌ خارج عن ملكه وليس كذلك؛ بل المراد كونها دار إباحة فيما بين الكفار فقط كما ذكره في (التذكرة).
وأما مال المسلم فلا يكون له في الدار ذلك الحكم، بل إذا استولى عليه الكفار ففيه التفصيل والخلاف؛ والمذهب أنهم لا يملكون علينا إلا ما أدخلوه دارهم قهراً) انتهى.(1/422)


وأما قولهم في الرهن أنه يخرجه عن الرهنية والضمان غلبة العدو الكافر بملكه لها استيلاءً بالقهر، وقولهم: إنهم لا يملكون علينا ما لا يصح تملكه كالوقف وأموال المساجد مرادٌ به ما ينقل من ذلك لا مطلقاً؛ وقول صاحب الهداية: أنهم يملكون علينا ما غلبوا عليه في دار الحرب محتجاً بخبر عقيل ليس على ظاهره، بل المراد ما سبق؛ ولما كانت دار الحرب الأصلية دار إباحة قلنا: إنه لا قصاص فيها بين المسلمين، فإنه وإن سقط القصاص فيها لم يسقط الأرش؛ ومقتضى الأزهار وشرحه أنه لا أرش حيث[117أ] جنى مسلم على كافر أو العكس في دار الحرب، وفي (التذكرة) عن أبي طالب أنه يثبت، كما يختاره الإمام يحيى والشافعي والإمام شرف الدين، ومن وجد في الغنيمة ما كان له مما سلبه الكفار فهو أولى به بلا شيء قبل القسمة، وبعدها بالقيمة لمن وجده في سهمه.
وأما ما أخذه البغاة فإنه أولى به قبل القسمة وبعدها بلا شيء؛ لأنهم لا يملكون علينا كما في (الغيث) وغيره، ثم اعلم أن المسلم من الحربيين تحصن في دارهم نفسه، وطفله الموجود حال الإسلام لا ماله منقولاً وغيره وللمسلمين اغتنامه عند ظفرهم بدارهم؛ ولو كانت وديعة عند مسلم فإن المسلم في دار الحرب يحصن نفسه، ومن أسلم بإسلامه كطفله، ومثله المجنون، وماله المنقول، ومال طفله غير الثلاثة المستثناة، سواءً كان في يده أو يد ذمي،ٍ قال في (شرح البحر): وهذا نص في أن غنيمة غير المنقول من أملاك الحربي ودياره وأراضيه لم تخرج بإسلامه عن كونها من جملة دار الحرب المباحة؛ لأن إسلامه لو غير هذا الحكم لكان بعضها دار حربٍ وبعضها دار إسلام، وهذا لا سبيل إليه. ذكره في (الانتصار).(1/423)


وأما قوله تعالى في آخر هذه الآية: ?وَأَمْوَالهُم? فمخصوص بقوله: ((من أسلم عن ماله فهو له)) دفعاً للشافعي حيث قال: إنه يحصن غير المنقول كالمنقول وهو غير صحيح؛ لأن دارهم دار إباحة، فلو أبطلنا هذا الحكم في بعضها لجعلنا بعضها دار كفر وبعضها دار إسلام، قال: فعلى هذا لو كسب المسلم فيها داراً دخل في الغنيمة، وفيه نظر). انتهى.
قال شارح (الفتح): فهم من كلامه أنه يرجح كلام الشافعي وأبي يوسف أنه لا يجوز، وهذا[117ب] يرجح ما مضى من كونها ليست دار إباحة فما هو للمسلمين، وإطلاقه هنا كما في (الأزهار) وفيه نظر، وفي (المقنع): أنه لا يحصن في دار الحرب وأنهم غنيمة إلا من حدث منهم بعد إسلامه فمسلمون، كأن تكون زوجته حاملاً، وفرق شارح (البحر) بينهما بوجهين:
أحدهما: أن الكافر الذي أسلم أرضه وداره مباحة الأصل وبإسلامه لم تتحدد عليه يد غير اليد الأولى، فلم تخرج عن الإباحة الأصلية، بخلاف ما شراه المسلم -فاختلاف اليدين ظاهر.
وثانيهما: أن الضمير في قوله: ?أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ?[الأحزاب:27] عائد إلى الكفار، فلا يدخل فيه المسلم المشتري بخلاف الكافر الأصلي الذي أسلم؛ فالضمير شامل له حقيقة ومجازاً، ثم قال: قلت: ينظر في هذا الفرق، فإن الذي أسلم لو ثبتت يده على ما هو له في دار الحرب بعد إسلامه كان محترماً على ذلك التعليل؛ والظاهر الإطلاق؛ ولعل المراد بالكلام هنا في التحصين في المنقول وغيره، وفيما عند حربي من جهة المسلمين، فلو استولى المسلمون على دار الحرب وأهلها فهو على بابه من أنها لا تكون مباحة إلا فيما بينهم لا فيما هو لمسلم، سواء كان إسلامه طارئاً أو أصلياً كما هو ظاهر إطلاقهم فيما مرَّ على حد قول أبي طالب ومن معه فيمكن. والله أعلم.(1/424)


إذا تقرر هذا الكلام في المسألة على ثلاثة مذاهب فالقائل: بأنهم يملكون علينا ما أدخلوه دارهم قهراً؛ فإذا استولينا عليه فصاحبه أحق بعينه ما لم يقسم؛ فإذا قسم لم يستحقه إلا بدفع القيمة لمن صار في يده[118أ] وهو أبو طالب وتخريجه للهادي [عليه السلام] وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد يقول: قال صلى الله عليه [وآله وسلم] لمن عرف بعيره في الغنيمة: ((إن أصبته قبل القسمة فهو لك، وإن وجدته بعد ما قسم أخذته بالقيمة)). فاقتضى ملكهم إياه، وأولوية مالكه الأول بعينه.
وأما ما ذكره السيد الإمام: الحسن بن أحمد الجلال رحمه الله فيما قدمناه عنه من أن الحكم على القسمة بكونها مانعاً لا يعقل عليه فتوقف على محله إذا لا عموم في لفظه فوجه التعميم ما يرويه أئمتنا عن أمير المؤمنين [عليه السلام] بلفظ: (ما أحرز المشركون فعرفه صاحبه قبل القسمة فهو له وإن جرى فيه السهمان فلا شيء).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: (من اشترى ما أخذه العدو فهو جائز) وفيه دلالة على ملكهم إذ لا يجوز البيع إلا من المالك أومن المتولي؛ وهو وإن كان في رواية الحسن بن عمارة مجمع على ضعفه، فيشهد له خبر البعير، وما روي عنه أيضاً، وما سيأتي من رد الفرس والعبد لابن عمر، وقضاء عمر بذلك ولم ينكر ؛ لا يقال ملك الكافر ينافي قولهم أن صاحبه أحق به ما لم يقسم بغير بدل؛ لأنا نقول ورد الدليل بذلك، وإن كان القياس أن لا يأخذه، ولإجماع العلماء على جواز أخذه قبل القسمة؛ فترك القياس استحساناً لهذه الأدلة، ويكون ذلك بمنزلة الرجوع عن الهبة، وبتركة الميت إذا باعها الوصي لقضاء الدين قالوا: إرث بها بالقيمة، وكما في صيد من أحرم بعد أن ملك الصيد أنه يخرج عن ملكه حتى يحل؛ فإن أخذ وهو باق عاد له فلا شيء.
وأما القائل: بأنهم لا يملكون علينا ولو أدخلوه دارهم قهراً، وأن صاحبه أحق به قبل القسمة وبعدها بلا شيء وهم: أبو بكر وعمر وربيعة[118ب] والمؤيد بالله والشافعي.(1/425)


فنقول: قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)) لكن يُعْطَى الإمام الغانم عوضه من الغنيمة، ونحتج بما ذكره السيدان رحمهما الله فيما قدمناه عنهما من المعارضة والحل.
وأما رواية أبي مضر عن الهادي [عليه السلام] تخريجاً من كونهم يملكون لمجرد الحيازة مطلقاً، فنحتج بحديث عقيل وأشباهه، وبقوله تعالى: ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ?[الحشر:8] ودلالة الآية ظنية، وخبر عقيل لا يقاوم الأدلة القطعية في تحريم الدماء والأموال؛ وبهذا يعرف أن قول السيد رحمه الله: وأحسن أدلة أصحابنا على ذلك حديث عقيل…إلخ لا يستقيم إيراده لغير أهل هذا القول.
الثالث: وهو قول تفرد به أبو مضر والجمهور من الأئمة، والأمة على خلافه؛ ولذا حمله الإمام في (البحر) على أن البيع إنما كان برضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بالاستيلاء.(1/426)

85 / 95
ع
En
A+
A-