[بحث حول حكم ما أدخله الكفار إلى دارهم قهراً من المنقولات]
جواباً على السيد العلامة المحقق: الهادي بن أحمد الجلال - تغمده الله برحمته.
وهذا السيد من أكابر العترة وعلمائها المعدودين في أهل الاجتهاد؛ وها نحن موردون زبدة ما قاله رحمه الله إلينا، وقلناه في الجواب عليه.
قال رحمه الله: حمد من لم يوجب السؤال عما حاك في الصدر حتى أوجب على الخبر بجواب، والصلاة والسلام على من أنهى الله إليه الأمر بلا ارتياب، وعلى آله قرناء الكتاب والسنة، ونجوم الاهتداء لجادة الصواب. أما بعد:
فهذا سؤال مسترشد بالقصور معترف، ظمآن من بحار أولي الفضائل مغترف، يستكشف عما حاك في صدره، فإنه لا سواء فيما عمت به البلوى وغيره في جهله وضره، وهو أن أصحابنا الزيدية عليهم السلام أصلوا أن الكفار يملكون علينا كما نملك[114ب]عليهم؛ وأحسن أدلة أصحابنا على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((وهل ترك لنا عقيل من رباع)) ولا حجة فيه؛ لأنه لا توارث بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين من مضى من آبائه في دورهم، فلم يملكها عقيل بالاستيلاء؛ لأنها لم تدخل في ملك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو وغيره مما لا يبلغ حد التواتر لا تقاوم ما أصلوه من القطع بتحريم مال المسلم وعرضه ودمه الدالة عليه الآيات المعلوم تواترها، وحديث حجة الوداع المشهور في رواية مسلم، والقاطع لا يعارضه الظني لو صح ووضحت دلالته، وسلم عن المعارض، مع أنه معارض بحديث الجدعاء في قصة امرأة أبي ذر، وحديث رد الفرس والعبد لابن عمر، وإمكان إدخال حديث عقيل هذا وأشباهه فيما نسخه حديث حجة الوداع: ((إن دماءكم وأعراضكم…إلخ)) ولا أكثر بإيراد أدلة الإثبات والنفي؛ إذ ربما يختلف أنظار المجتهدين في الترجيح؛ ولكن كيف الجمع بين الأصلين؟
انتهى سؤاله رحمه الله.(1/417)


[رأي الحسن الجلال في السؤال السابق]
ورأيت لأخيه السيد الإمام العلامة: الحسن بن أحمد الجلال رحمه الله كلاماً يؤدي ما ذكره صنوه الهادي رحمه الله في أثناء كلام له رحمه الله في المصالح المرسلة بعد كلام طويل لفظه: إلا أن على مذهبنا إشكالاً، وهو أن متأخري الأئمة قد استرسلوا في المصالح المرسلة حتى تعدوا إلى الدخول في الغريب الملغي، كما بلغنا عن بعضهم أنه يقول: ما في أيدي الأمة قد صار بيت مال محتجاً بخيالات منها: كفر التأويل، ومنها أن البغاة في كل أرض قد استولوا عليها فملكوه كما يملكه الكفار؛ فإذا استولى عليه الإمام صار غنيمة يخير فيها بين أن يقسمها أو يضرب عليها خراجاً.
وهذه شبهة يتعين على مثلنا حلها بوجوه وساق رحمه الله الكلام حتى قال: الثاني أن قياس البغاة [115أ] على الكفار في ملكهم ما استولوا عليه ممنوع حكم الأصل، وذلك رأي جماهير الصحابة والتابعين والمؤيد بالله والشافعي وغيرهم.
وأما احتجاج المخالف بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن عرف بعيره في الغنيمة: ((إن أصبته قبل القسمة فهو لك، وإن أصبته بعدها أخذته بالقيمة)).
قالوا: فلو لم يملكه الكفار لما صحت قسمته، فالجواب أن ذلك فعل جزئي لا عموم له، ومدفوع أيضاً بمعارضة وحل، أما المعارضة فقوله تعالى: ?وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً?[النساء:141].(1/418)


وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليس لعرق ظالم حق)) وبفعله صلى الله عليه وآله وسلم في أخذ ناقته الجدعاء من يد امرأة أبي ذر بلا عوض، وقد اختلستها من أيدي الكفار بعد ما استولوا عليها ولو ملكوها لملكتها، فلم يأخذ منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير الخمس، بل قال صلى الله عليه وآله وسلم حين نذرت بنحرها: ((إن نجاها الله عليها بئسما جزيتها أن نجتك، لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه المرء)). فصرح بأنها لا تملكها؛ ومثله استيلاء الأحزاب على أموال المدينة، فلو ملكوها لكان الواجب قسمتها بعد إجلائهم بين أهل الخندق على السوية، أو كانت كما أجلى عليها أهلها بلا إتحاف.
وأما الحل فخبر البعير ظاهر في أنه لم يخرج من ملك صاحبه لمجرد استيلاء الكفار عليه، وإنما منعت القسمة من رده والحكم على القسمة بأنها مانع لا تعقل علته فيوقف على محله؛ إذ لا عموم في لفظه ولا مناط للقياس عليه.
الثالث: منع ثبوت الحكم في الفرع مسنداً بأمرين:
أحدهما: رد أمير المؤمنين [عليه السلام] أموال الخوارج لأولادهم؛ فلو كان الاستيلاء يوجب ملكا للمستولي لقسمه أمير المؤمنين [عليه السلام] واستأذن الغانمون في رده كما استأذنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رد سبي هوازن؛ وإذا كان هذا في[115ب]مال الباغي نفسه فكيف في مال من ظلمه.(1/419)


ثانيهما: إجماع المختلفين في المسألة على أن من وضع يده قبل القسمة على ما كان له لم يكن غنيمة مشتركة؛ كما دل عليه خبر البعير، والأمر كذلك في كل بلاد الإسلام لم يعلم أن أحداً من أئمة الهدى ولا غيرهم قسم بين جنوده ما استفتح من البلاد، ولا وقفه كما وقف عمر أرض العراق، ولا انتلقت أيدي ملاكه عنه، وأيضاً القائلون بالملك بالاستيلاء إنما يقولون بملك مال المخالف، فأما الموافق فلا يملك ما في يده إجماعاً وإن كان في دار العدو، وإلا لزم أن يكون دار الإسلام دار إباحة؛ وهذا خروج عن دائرة الإسلام استلزمته اجتهادات القاصرين بالأوهام -نسأل الله السلامة والتقوى، والعصمة عن أراء ذوي البدع والأهواء).
انتهى كلامه رحمه الله.(1/420)


[جواب المؤلف على سؤال الهادي الجلال]
ومن جوابنا على السيد الهادي رحمة الله عليه بعد الخطبة ما لفظه: أقول قبل الكلام على ذلك بذكر الخلاف في المسألة فنقول: معنى قولهم: إن الكفار يملكون علينا ما أدخلوه دارهم قهراً أنه لا يملك أهل الشوكة منهم إلا ما أدخلوه دارهم قهراً، سواء قهروه على مسلم أو على كافر؛ أما ما لم يدخلوه فلا يملكونه ولو اقتسموه في دارنا، كما صرح به كلام (الأزهار) و(التذكرة) وغيرهما خلافٌ ظاهر كلام أبي مضر عن يحيى [عليه السلام] أنهم يملكون علينا لمجرد الحيازة، وكما تفهمه عبارة السيد حفظه الله في ديباجة كلامه، ثم إنهم لا يملكون ما قهروه في دار الإسلام ولو بعضهم على بعض إن دخلوا بغير أمان، وإن قهرنا عليهم شيئاً مما هو لهم ملكناه ولو بدارنا؛ وفي قولهم على قولنا أن الكفار لا يملكون[116أ] علينا ما لم يدخلوه دارهم قهراً أي ما لم يأخذوه بالقهر أو الغلبة كالعبد الآبق والفرس النافر إليهم تصريح بأن سائر الحيوانات التي لا تعقل كالبعير والفرس ونحوهما حكمهما حكم العبد الآبق في أن الكفار لا يملكون، ولذا استحقه مالكه ولو بعد القسمة بلا عوض؛ وكذا صرح به في (الفتح) وشرحه، وفي (الغيث) و(شرح النجري)، ورجح ابن مظفر في (الكواكب) قول أبي يوسف ومحمد، وأحد قولي أبي طالب وهو: عدم الفرق بين الحيوان إذا ند، والعبد إذا أبق في أنهم يملكونهما؛ ومفهوم (الأزهار) أنهم يملكون البعير ونحوه لا العبد؛ ووجه الفرق بين العبد وبين غيره أنهم إنما يملكون علينا ما أخذوه قهراً والعبد الآبق لم يؤخذ قهراً، بل بدخوله دارهم ثبت يده على نفسه بخلاف البعير ونحوه إذا ند إليهم وأنهم يملكونه؛ إذ لا يد له على نفسه كذا ذكر ابن بهران، والصحيح ما ذكرناه أولاً وهو عدم الفرق.
وظاهر كلام أصحابنا أن مالك العبد أولى به قبل القسمة وبعدها بثبت اليد عليه أولم تثبت.(1/421)

84 / 95
ع
En
A+
A-