[أنواع السياسة]
فالسياسة نوعان: سياسة مخالفة للشريعة كما سبق، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها؛ ولا تنس في هذا الموضع قول سليمان نبي الله [عليه السلام] للمرأتين المدعيتين الولد فحكم داود للكبرى، فقال سليمان: ائتوني بسكين أشقه بينكما نصفين، فسمحت الكبرى بذلك وقالت الصغرى: لا تفعل رحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى لما رآه من وفور شفقتها عليه، وعلم أن امتناعها لفرط شفقة الأم وقويت هذه القرينة عنده على قولها هو ابنها وهذا حق، فإن الإقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يعول عليه، وقد ترجم النسائي في سننه الكبرى الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم عليه إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به؛ فهكذا يكون الفهم عن الله ورسوله.
وترجم عليه أيضاً الحكم بالقرائن وشواهد الأحوال، ومن ذلك قول شاهد يوسف مقرراً له فقد توصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما والكاذب، ومنه الحكم عند البعض بوجوب الحد برائحة الخمر من الرجل أو فيه اعتماداً على القرينة.(1/402)
ومنه دفع اللقطة إلى واصفها لمجرد الوصف عند البعض بدلالة أمره صلى الله عليه وآله وسلم بحفظ عفاصها ووكائها لذلك، وكالحكم بالقافة عند القائل به، ونظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سيفي ابني عفراء لما ادعى كل منهما قتل أبي جهل وكانا لم يمسحاه من الدم [108أ] فقال لأحدهما هذا قتله وقضى له بسلبه؛ وهذا من أحسن الأحكام وأحقها بالاتباع حتى عده كثيرون من البينة، وقال: إن البينة اسم لكل ما يتبين الحق به، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد واليمين لم يوف مسماها حقه، ولم تأتِ البينة في القرآن قط مراداً بها الشاهد، بل الحجة والدليل والبرهان مفردة ومجموعة، وكذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((البينة على المدعي)) المراد عليه بيان ما يصحح دعواه ليحكم له به، والشاهدان من ذلك، ولا ريب أن غيرهما من أنواع البينة قد يكون منها لدلالة الحال على صدق المدعي فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد، والبينة والدلالة والحجة والبرهان والآية والبصيرة والعلامة والأمارة متقاربة في المعنى، ولم يلغ الشارع القرائن والأمارات في دلالات الأحكام، بل من استقرأ موارد الشرع ومصادره وجده شاهداً لها بالاعتبار مرتباً عليها الأحكام هكذا قيل؛ والصحيح أن ما عدا الشاهدين أو الشاهد واليمين، أو ما يفيد العلم من التواتر أو نحو ذلك من اعتراف من عليه الحق محل نظر للحاكم وليس معدوداً من البينة المصطلح عليها، بل من القرائن والأمارات التي تتفرع عنها أحكام خاصة بها. والله أعلم .(1/403)
[أقوال وآراء في ماهية السياسة]
قال بعض الأفاضل: السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وله بُعْدٌ من الفساد، فإذا صادمت النصوص بطل حكمها ومهما وافقته من طريق يتناسب ما تقدم اعتبرت، ولسنا نريد بالسياسة ما أفرط فيه ولاة الجور ولا ما فرط فيه غيرهم، فكلي الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسلهٍ وأنزل به كتبه، فإن الله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه[108ب] ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق فثم شرع الله ودينه، فالسياسة العادلة من الدين، وإذا اعتبرت الأمارات والقرائن في المتهمين بحيث قويت قوة الشهادة جاز العمل عليها في حبسه حتى يتبين الحال، ولا بد حينئذ مع كونه مظنة للتهمة من اعتبار قرائن الأحوال كما اعتبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تهمة حبس من اتهم بها لظهور أمارات قضت بالريبة على المتهم، فليس المراد إطلاق كل متهم وتحليفه وتخلية سبيله مع اشتهاره بالفساد في الأرض، وكثرة سرقاته، ولا حبس كل متهم لمجرد تهمة خصمه له فالأول أفرط والثاني تفريط والضابط المظنة وقرائن الأحوال والأمارات، ومن السياسة تفريق الشهود عند الريبة وسؤالهم كيف تحملوا الشهادة وأين تحملوها، وكذا إذا ارتاب في الدعوى سأل المدعي عن سبب الحق وأين كان، ونظر في الحال هل يقتضي صحة ذلك، وقل حاكم أو والٍ اعتنى بذلك وصار له فيه ملكه إلا عرف المحق من المبطل، وأوصل الحقوق إلى أهلها.(1/404)
[نماذج من فراسة بعض أمراء وأشراف مكة]
ومن السياسات المروية عن بعض أمراء (مكة) المشرفة وهو الشريف: الحسن بن أبي نمي فإنه يروى عنه من العمل بالأمارات أمور صادف فيها المراد، فمن ذلك أنه تنازع رجلان مصري وشامي إليه في حَمَلٍ يدعيه كل منهما ولا بينة وكلاهما يريد ذبحه.
فقال الشريف: اذبحوه واكسروا دماغه عقب ذبحه وأتوني بما فيه، فجاءوا به إليه فحركه بعود وقضى به للشامي ولم يزل بالمصري حتى أقر، فسئل عنه فقال: المصري لا يعلفه إلا بالفول المحض وهو يجمد الدماغ، والشامي يمزجه بالدقيق وهو يميعه.
وتنازع رجلان إليه في جارية كلٌ يدعي أنها له ولا بينة، فأمر بإبعاد الثلاثة ثم جاء[109أ] بحنطة ودعا المصري وقال ما هذا؟
فقال: قمح فأمره بالتأخر، ثم دعا اليماني فقال ما هذا؟ قال بر فأمره بالتأخر، ثم دعا الجارية فسألها فقالت: بر، فقضى بها لليماني ولم يزل بالمصري حتى أقر بها.
وكسر بعض حواصل الفرضه في حده ولم يُعْرَفِ السارق فأخبر بذلك، فسأل هل رأيتم ثمة شيئاً؟ قالوا: خيطاً معلقاً على الجدار، فجيء به إليه ففركه ثم شمه فوجد فيه ريح عطر وأمر بعرضه على العطارين، فقال أحدهم: اشتراه مني فلان، فدعاه الشريف فسأله فنكل فتهدده وتوعده فأقر بالحق وأخذ منه.
ونهب مال لحاج بالمزدلفة فدعا الشريف الحرسي وسأله.
فقال: لم أر أثراً إلا عصاً فأحضرها، ثم دعا الشريف القبائل الذين حجوا فكل يأتي وعصاه بيده قديمة حتى جاء فتى في يده عصا خضراء فسأله عن عصاه.
فقال: سقطت.
فقال: لعلها هذه وألزمه ما ذهب على الحاج فأقر به.(1/405)
[(80) استطراد:الحسين بن المؤيد محمد بن القاسم]
( ... - 1084 هـ / ... - 1673 م)
وكان للسيد المعظم نبراس العترة وشرفها: الحسين بن أمير المؤمنين المؤيد بالله قدس الله روحهما من سياسة الأمر المطابقة للشريعة ما تفرد به في وقته، وهذا السيد من أعاظم العترة وأكابرها، أقام في مدة الإمام المتوكل على الله رضوان الله عليه في (شهارة) وانتهى إليه أمر كثير من الجهات، وساس الناس أحسن سياسة، مع وفور عقل، ومكارم أخلاق، وكرمٍ وجودٍ لجميع من وفد حضرته العالية، وكان له همة في درس العلوم ونشرها وتحصيل الكتب العلمية، وبالغ في تحصيل كثير من مؤلفاتنا وجواباتنا في جميع العلوم.
وكان له بوالدي قدس الله روحه مزيد اختصاص متصل بأبيه المؤيد بالله عليه السلام ولنا به وبآبائه الكرام وأهلهم سلام الله عليهم من مزيد الاختصاص والقرب مالا يخفى على أحد، فمن سياسته رحمه الله ما رواه لنا بعض الثقات[109ب] أن رجلاً نام في بعض المطابخ، فذهب عليه مال في موضع يعمل فيه القهوة، فاتهم به صاحب الموضع وانتهى أمرهما إلى الإمام المتوكل على الله عليه السلام.(1/406)