فيقول: غضبت لك، فيقول: أكان لغضبك أن يكون أشد من غضبي، ويؤتى بالذي قصر فيقول: عبدي لم قصرت؟ فيقول: رحمته، فيقول: أكان لرحمتك أن تكون أشد من رحمتي)).
وفي الحديث: أنه لا يحل التجاوز في الحدود والزواجر التي نصبها الله لعباده زيادة أو نقصان قال الله تعالى: ?وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ?[البقرة:229]، ?وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ?[الطلاق:1].
وأخرج الدارقطني وغيره من حديث أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ياسر على الأصح من الأقوال المختلفة في اسمه واسم أبيه إلى نحو أربعين قولاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت[106أ]عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)). قال ابن السمعاني: من عمل بهذا الحديث فقد حاز الثواب وأَمِنَ العقاب؛ لأن من أدى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه فقد استوفى أقسام الفضل وأوفى حقوق الدين .
وأخرج الطبراني والبزار مرفوعاً: ((إني آخذ بحجزكم اتقوا النار أقول: إياكم وجهنم، والحدود إياكم والحدود إياكم وجهنم إياكم والحدود ثلاث مرات)).
وأخرج النسائي مرفوعاً وموقوفاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحاً)) وفي رواية ((أربعين صباحاً)).
وأخرج الطبراني بسندٍ حسن: ((يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين عاماً)).(1/397)
وأخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((خمس بخمس، ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا مُنِعُوا النبات وأُخِذُوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حُبِسَ عنهم القطر)). وإذا ثبت الحد بالوجه الصحيح الموجب لإقامته، ولم تعترض شبهة يدرأ بها فالواجب على الإمام وحاكمه إقامته، فإن جاوزه بزيادة أو نقصان مداهنة، أو تساهلاً كان كبيرة موجبة للعقاب.(1/398)
[مفسدة أخرى]
ومن المفاسد ما اعتاده عوام العمال من أمر الرعية أن يجمعوا على عريفٍ لهم يتصرف عليهم، ويكون إليه جميع هذا الشائب المحرم في مثل هدية العامل ونحوها، وأخذه من الرعية في مواقيت معروفة ليواصله إليه، فإذا اختاروا رجلاً منهم طلبه العامل وأخذ يمينه، وبعد أخذ يمينه يصير كلامه حجة قطعية عند العامل، فإذا أغضبه أحد ضعفاء الرعية أو منعه قرضاً مثلاً أو جُعلاً يطلبه منه رفع عنه إلى العامل أمراً يوجب عند العامل تأديبه بأخذ المال فإذا صرح واستغاث بالشريعة انتهروه[106ب]وأغلظوا القول له وقالوا: لا شريعة في أمرك، فإن عريف بلدك مقلد اليمين في من تحت يده، فقوله حجة عليك يحل بها أخذ مالك وانتهاك عرضك، فإذا قال: إن الله سبحانه قد حدد حدوداً لعباده لا يتعدونها؛ ولم يجعل قول آحاد أكابر الأئمة وعلمائها حجة يحل به ما علم تحريمه بضرورة الدين من مال المسلم وعرضه ودمه، وعريفنا ليس بمعصوم فكلامه ليس بحجة قطعية قيل له: هذا أمر جرت العادة به، وأجمع عمال هذه الأزمنة عليه، ويزيد في زجره وإغلاض القول له حتى يتم أخذ المطلوب منه، وهذا أمر مأنوس للعمال وعرفائهم، ومخالفته عندهم كمخالفة القطعيات، وانظر إلى هذه المفسدة المخالفة للشريعة وما يترتب عليها من المفاسد.(1/399)
[مفسدة أخرى]
ومن مفاسد العمال ما تهوروا فيه من أكل أموال الناس بالباطل بطريقٍ باطلة ادعوها من السياسة وليست في شيء من السياسة العادلة أو الجائزة، وهو أنه إذا أصيب رجل في وادٍ أو بادية من جهة الدعار وانتهى في شكواه إليهم أعزوه على البلدان التي لا واسطة بينها وبين موضع الدعار، ولو بعدت عنه ويعدونه رجوع ما ذهب عليه أن وجه التهمة إليهم؛ فإذا قال: يحل لي نسبة الدعار إليهم مع براءتهم عندي لمعرفتي لشخوص الدعار والذين أخذوا المال.
قالوا له: أما علمت أن الدعار لا يثبتون على الأموال إلا ولهم قوم يأوون إليهم ويعينونهم، ولا يمكن أن تأوي إلا إلى مثل هذه البلدان.
فإذا قال: هذا أمر لا يمكن فإني أعلم براءة ضعفاء هذه البلد عن دعارة هؤلاء وعن إيوائهم.
قالوا: فأين أنت من الوجه الموجب لتأديبهم.
فإذا قال: وما هو؟
قالوا: أما صرخت عند وثوب الدعار إليك فلم يأت من ينقذك منهم؟
فإذا قال: الصوت لا ينتهي إليهم.
قالوا: عندنا خبر ذلك وأنهم علموا وتركوا الإغارة عليك، فإن شيئت عَوْدُ مالك وجهت التهمة إليهم وإلا فلا وجه عندنا لشكواك؛ ولا يزالون يحسنون له ما يأباه طبعه ويستفتحه حتى يوجه بتهمته إليهم، فيبادرون[107أ] إلى حيطة بالعسكر، ويأمرونهم بعسفهم والمبالغة في طلبهم بواسطة الربط وغيره ليعدلوا إلى تسليم ما يوجهونه عليهم من الآداب الجائرة والنفائع الباطلة كما فعله نائب الجهة عند رقم هذه، فلا يستفيد المتهم إلا ظلم الضعفاء بواسطة إغرائه عليهم، ولا يحصل من ماله على طائل؛ وإنما يكون منتهى خبره بتهمهم تبريء هؤلاء العمال منه وانتهارهم له، وأنه كيف يطلب ماله من ضعفاء فقراء، فإذا ألزمهم الحجة بما وعدوه عند توجيه التهمة إليهم أجابوه بأنا إنما نريد صون البلاد بتأديب هؤلاء وعسفهم، لا عود ما ذهب من المال، ويلزمونه الحجة باعترافه أولاً ببراءتهم، فيذهب من عندهم وقد اجتمع عليه خسران دنيوي وأخروي وهذه من أعظم المفاسد.(1/400)
[العمل بالفراسة]
ويتصل بهذا أمر محتاج إليه (وهو): العمل بالفراسة والقرائن التي يظهر فيها الحق والاستدلال بالأمارات، فيظهر له بها ما يوجب العمل لا كما ذكرناه من هذه السياسات الباطلة التي لا يراد بها إلا أكل مال المسلم بالباطل.
وهذه مسألة كما ذكر ابن القيم الجوزية: إن أضاعها الإمام أو الحاكم أضاع حقاً كثيراً، وأقام باطلاً كبيراً، وإن توسع فيها وجعل معوّله عليها دون الأوضاع الشرعية وقع في أنواع من الظلم والفساد، وليس حكماً بالفراسة، بل بالأمارات التي أصلها قوله تعالى: ?إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ?[يوسف:26] وكالنظر إلى كثرة الخشب في الحائط ومعاقد القَمْط والخُصِّ وكالنظر في أمر الخنثى بالإمارات الدالة على إحدى حاليه؛ وفي إمارات القبلة ونحوها، وإذا لم يكن الحاكم فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقهه في كليات الأحكام أضاع حقوقاً كثيرةً على أصحابها، وحكم بما يعلم الناس بطلانه ولا يشكون فيه اعتماداً منه على نوع (لم ينظر إلى قرائن أحواله).
فهاهنا [107ب] نوعان من الفقه لا بد للحاكم منهما: فقه في الحوادث الكليات وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الحق والباطل، ثم يعطي كلاً مستحقه، ومن علم اشتمال الشريعة المحمدية على قواعد العدل الذي ما فوقه عدل تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، ومن علم مقاصد الشريعة ووضعها مواضعها وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة.(1/401)