وفي أخبار إبراهيم بن عبد الله بن الحسن [عليه السلام] حين استولى على (البصرة) أنه أرسل إلى عاملٍ لأبي جعفر: هل عندك شيء [فقال: لا] فقال: الله الله، فتركه وأرسل إلى آخر فقال: عندي مال فإن أخذته غرمنيه أبو جعفر، فتركه وقبض على آخر فقال بعض أصحابه: ادفعه إلي لأعذبه حتى يعطينا ما عنده فقال: لا حاجة لي في مالٍ لا يؤخذ إلا بالعذاب؛ وهكذا كانت سيرة السلف الصالحين، فلو يعلق بأمراء الجور حق التضمين لما ساغ للأئمة المذكورين تفويت مال الله الذي وصل إلى أيديهم؛ وبهذا يندفع ما يقال أن غايته ترك التضمين، ولا يستلزم تركه سوى حرمته؛ لأنا نقول: بل هو تفويت لمال الله وتفويته يحرم على الإمام، ولذا قال الغزالي: ومن أوجب ما لم يوجبه السلف الصالح، وزعم أنه تفطن من الشرع لما لم يتفطنوا له فهو موسوس مخبل العقل.(1/392)
[ عمر بن الخطاب وأموال عماله ]
وأما أخذ عمر من شطر أموال العمال فليس عقوبة ولا تضميناً، وإنما أخذ مال الله من أيديهم، ثم إنه يقال: لا يخلوا إما أن نحكم بأن جميع ما في أيدي الناس بيت مال فيؤخذ منهم؛ لأنه ليس لهم، أو نحكم بأن كلاً منهم مالك لما في يده، لكنه يؤخذ منه ذلك على وجه التضمين لما ثبت في ذمته من مال الله؛ إن قيل [104ب] بالأول لزم منه طي بساط الشريعة وهلاك الناس وخراب العالم؛ لأن الناس إذا لم يملكوا شيئاً مما في أيديهم لم يجب على أحد زكاة، ولا حج، ولا نفقة زوجة ولا ولد، ولا قضاء دين، ولا غصب، ولا تخلص من واجب؛ إذ لم يبق سبيل إلى الخلاص، ولزم أن لا ينصب قاضٍ، ولا يبعث ساعٍ ولا نحو ذلك، ويلزم أن لا يجوز لأحد تناول مطعوم إلا مما ينبت من أشجار البراري ونحوها، أو ما يسد الرمق عند خشية الهلاك مما في يده أوفي يد غيره؛ إذ قد صار سواء، ولا شك أن الاستمرار على ذلك يؤدي إلى الهلاك قطعاً، ويلزم أيضاً وجوب الإمساك عن جميع التصرفات من التجارات والزراعات والصناعات وغيرها؛ إذ لا يجوز لأحد أن يتصرف فيما ليس له وذلك يؤدي إلى خراب العالم.
فإن قيل: بل الواجب أن يسلم كل واحد ما في يده إلى الإمام، ثم هو يجري على كل واحد قدر كفايته .(1/393)
فجوابه: أن هذا مما لا يمكن؛ إذ لا يقدر كل واحد على الوصول إلى الإمام أو نائبه، ولا يقدر الإمام أو نائبه على القيام بذلك لجميع الناس في جميع أقطار الأرض، ولو فرض إمكانه كما يفرض المحال فإما أن يترك الناس التصرفات جميعها، ويجري الإمام عليهم ما قبضه منهم حتى يفرغ، فبفراغه يهلك الناس عن آخرهم قطعاً، وإما أن يعطي الإمام كل واحد ما يقوم به في تصرفه ويعودون إلى ما كانوا عليه في التصرفات، لزم عود الحال الأولى لما يؤدي إليه التصرفات من التظالم، ومنع الواجبات والمعاملة بالربا وسائر الأمور التي لأجلها حكم بأن الذي في أيدي الناس صار بيت مال؛ إذ لا سبيل إلى تركهم تلك الأمور بالكلية لغلبة الطبيعة البشرية ?وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ?[الأنعام:28].
وإن قلنا بملك كل أحد لما في يده، لكنه يأخذه الإمام على وجه التضمين له.
قيل: وأي شيء يضمنه الإمام على هذا التقدير إذا كان مالكاً لما في يده، ولا يعامل إلا من هو مالك لما في يده مثله كما هو المفروض .(1/394)
فثبت بما ذكرناه أنه لا يجوز التضمين إلا لمن ثبت بذمته شيء من مال الله خاص[105أ] مما سبق ذكره أول البحث وعلمه الإمام يقيناً، ولا وجود لذلك في هذه الأزمنة، فلا وجه للتضمين أصلاً والمقدم عليه مقدم على ما لا يحل، على أنا إذا فرضنا زماناً يسوغ فيه التضمين، أو فر ضنا وجهاً يسوغ معه العقوبة بالمال، فالأليق اجتنابهما لما فيهما من التهمة، والتشبه بالجبابرة الظلمة، والتنفير عن الأئمة، وسوء القالة، واستنان الجهال بتلك السنة إلى غير ذلك من المفاسد العظيمة التي لا تخفى، ومعلومٌ أنه لا مصلحة مع مفسدة راجحة أو مساوية ولعمري أن في تجويز العقوبة بالمال والتوسع في التضمين عند كمال شروطه من المفاسد ما يزيد على ما فيهما من المصالح بأضعافٍ مضاعفةٍ لو فرضنا جوازهما؛ فأما شرع المكوس والقوانين فبمعزل عن سيرة أهل العدل دع عنك سيرة الأئمة الذين هم أولى بالفضل حتى صارت المكوس الآن من الحبائل التي يتسببون بها إلى انتهاب أموال المسلمين، فإن العمال يبيعون مكس الأسواق بشيء معلوم في الأسبوع من رجل يرى الحجة في استحلال مال المسلم، هو هذا البيع الذي خالفوا فيه صريح كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والإجماع العام والخاص، فيتلقون المسلمين فيأخذون منهم رهوناً، فإذا باع ما يطلبون المكس عليه أخذوا منه رسماً معروفاً يؤول في بعض الأحيان إلى مصادرته، فإذا رأوا بيده شيئاً من الأطعمة سلطوا عليه من يكيل ليأخذوا المتبقي بعد الكيل، وهو كثير بعد أن يمر عليه صاحب المكس، فيطلب منه شيئاً يسمونه اللفة فيأخذونه منه كرهاً، وهذه اللفة من بدع عوام العمال، فإذا استوفاها وأُخِذَ بواسطة من يكيل الحب ما بقي منه طلبوا منه الرسم المذكور في المكس، ولا يزالون يعملون الحيل والأسباب لانتهابه حتى يأتون على أكثر ماله وهو يصرخ ويستغيث، فلا يزيدهم ذلك إلا حنقاً عليه، فلا يخلص من أيديهم إلا وقد أدى إليهم هذه الرسوم الباطلة والمكوس(1/395)
الجائرة؛ وهذا كله بمرأى ومسمع من العمال غير مبالين بتحريمه ؛ فإذا أنكر[105ب] أولوا العلم أو أرباب الصلاح ذلك عليهم واعتلوا باعتيادهم لهذه المكوسات، وأنها لو كانت داخلة في التحريم لما باعوها بمال معلوم في الأسبوع بما جرت العادة به في أواخر زمن الإمام –عليه السلام- وهذه مفسدة في الدين يجب على أولى العلم التنبيه عليها، وعلى أئمة الحق إزالة مفسدتها، نعم ذكر كثير من العلماء في قول الله تعالى: ?وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا?[الأعراف:86] أنها نزلت في المكاسين والعشارين.
وأخرج البخاري وأبو داود من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لا يدخل الجنة صاحب مكس)).
وأما ما وراء ذلك من أخذ أموال المسلمين بمثل ما سبق للعمال، وما نخفه من هتك الأعراض فهو نوع من أعمال الجبابرة الذين يعذبون عباد الله ويمثلون بهم، ويسفكون دماءهم، ويستأصلون أموالهم من دون حق واضح ولا دليل راجح، فأعاذ الله أهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وعصمهم عن سلوك تلك المسالك، وحماهم وإيانا وسائر المؤمنين عن ورود مشارع تلك المهالك، بمحمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم .
وفيما حققه الفقيه العلامة: محمد بن يحيى بن بهران رحمه الله في هذا البحث كفاية، والاستغناء به عن إيراد غيره كاف في المقصود؛ وكفى زاجراً عن ذلك ما أورده أبو يعلى في مسنده من حديث حذيفة بلفظ: ((يؤتى بالولاة يوم القيامة عادلهم وجائرهم حتى يقفوا على جسر جهنم، فيقول الله تعالى: فيكم طلبتي فلا يبقى جائر في حكمه، مرتشٍ في قضائه، مميل سمعه إلى أحد الخصمين إلا هوى في النار سبعين خريفاً، ويؤتى بالرجل الذي ضرب فوق الحد فيقول الله تعال: عبدي لم ضربت فوق ما أمرت به؟(1/396)