أنهم يضعون المال بين الخصمين اللذين يريدان الشريعة في الأمر الذي تنازعاه، فإذا سلك العامل[102أ] بزعمه طريق الإنصاف والعدل وضعه مبهماً حتى يتضح تعديه، فإذا تنازعا ووجبت اليمين على منكر ما تنازعا فيه من مال أو قول يدعيه الآخر ليعززه فحلف حل لهم أخذ مال المحلوف له، وسموه متعدياً بطريق يمين الخصم، صادقة كانت أو كاذبة، فينقلب الوبال عليه ويعاقب بأخذ المال، وتعود عليه مؤنة العسكر الموجهين لإنصافه، فيلجون بيتة، ويتحكمون فيه، ويجعلون تسلم المال المضروب منه غاية لتحكمهم، ثم يفدون على العامل بما أخذوه منه على الصفة المذكورة إرسالاً من كل بلدة تشملها ولايته.
هذا طريق العمال إلى استحلال أموال المسلمين، وهذه الطريق مجمع على بطلانها لمخالفتها النصوص القرآنية والسنة النبوية، والمأخوذ بهذه الطرق سحت محرم لا نجاة لآخذه إلا بالتوبة التي لا تتم إلا برده إلى أربابه، ولقد عمت البلوى بهذه الطريق، وتعودها العمال وألفوها حتى ظنوها سنة لا بدعة، واستحسنوا ما يستقبح من هذه الشنعة، وجروا عسكرهم على استحلال هذه المحرمات ظناً منهم أن اتسام العامل بالعمالة كاف في حجية قوله وفعله، وأن له أصلاً في الشريعة يؤذن بحله؛ وإذا أنكر العلماء وأهل الورع ذلك عليهم رأوا إنكارهم منكراً؛ لمخالفته عادتهم وعرفهم، وكلما صرخ المظلوم من فعلهم، أو استغاث بالشريعة، أو بلغ إلى ولاة الأمر الكبار رد إلى من تولى ظلمه من هؤلاء لشرط يشرطونه على ولي الأمر الكبير في رد من فر منهم إليهم؛ لئلا يختل بزعمهم نظام الأمر ويقع الفساد، فيرده إليهم ظناً منه لجريهم على نهج الشريعة، وأنهم لا يتعدون حدودها، فلا يزيده رجوعهم إليه إلا وبالاً.
وهذه مفسدة في الدين عظيمة يجب على أئمة الحق رفعها، ويتحتم على أولى العلم التنبيه عليها، عملاً بحديث: ((من أذل عنده مؤمن فلم ينصره أذله الله على رؤوس الأشهاد[102ب] يوم القيامة)). عند أبي نعيم في الحلية.(1/387)


وتبعيداً للعمال من معنى حديث: ((إن من أخون الخيانة تجارة الوالي في رعيته)). عند الطبراني.
وحديث: ((أسوء الناس منزلة من أذهب آخرته بدنيا غيره)). عند البيهقي من حديث أبي هريرة.
وهرباً من معنى حديث: ((تفتح أبواب السماء لخمسٍ: لقراءة القرآن، وللقاء الزحفين، ولنزول المطر، ولدعوة المظلوم، وللآذان)). عند الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر.
وحديث: ((ثلاثة حق على الله أن لا ترد لهم دعوة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع)). أخرجه البراء عن أبي هريرة.
وحديث: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، يقول الرب تبارك وتعالى: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)). عند أحمد والترمذي عن أبي هريرة.(1/388)


فانظر إلى هذه البدعة التي أنسها العمال، وخالفوا بها نصوص الكتاب والسنة، واتخذوها شريعة لهم فإنك تجد الرجل منهم مرتطماً في هذه المآثم وهو يرى نفسه أعظم عباد الله تباعداً عنها، وتراه يكثر الصوم والنفل والتلاوة، فإذا فرغ منها وثب على رعيته بما ذكرناه وثوب السبع على فريسته غير مبالٍ بزجر الزاجرين ونهي الناهين، وينسى قوله تعالى: ?لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ?[البقرة:177] وقد يجزيه على الوقوع في هذه المحرمات من يدعي الفقه في الدين ويقول هذا باب من[103أ] أبواب التضمين، فيوقعه في أعظم مما وقع فيه أولاً ويكسبه جهلاً إلى جهله وإثماً إلى إثمه، فالتضمين الذي نص عليه أئمة أهل البيت وشيعتهم كما حققه الفقيه العلامة: محمد بن يحيى بن بهرا ن وغيره من علمائنا رحمهم الله أن الإمام متى ظفر بالظلمة وأعوانهم، وعلم يقيناً أنهم قد استهلكوا شيئاً من مال الله كان له أن يضمنهم ما أخذوه، فيأخذ من أموالهم ما يغلب على ظنه أنه قدر ما استهلكوا من مال الله، فلا بد من العلم اليقين باستهلاكهم لشيء من مال الله، ولا يكفي الظن في ذلك لتعذر حصول اليقين في الأغلب.(1/389)


هذا حاصل ما ذكروه وهو كلام جيد، لكنه إنما يتصور ذلك فيما قبضوه، من الواجبات وانتزعوه من أيدي عمال الحق بعد قبضهم إياه من أرباب الأموال إذا استهلكوه من غلات أراضي بيت المال أو نحو ذلك، وهذا ليس بكثير؛ فأما ما قبضوه من الزكوات ونحوها من أيدي أرباب الأموال، فإن كان برضاهم فهم وكلاء لهم، فإن استهلكوا شيئاً، فالمطالبة إلى أهل الأموال لا إلى الأئمة.
وأما ما اغتصبوه من أموالهم بغير رضاهم، فإن كان باسم الواجب فليس من مال الله وإنما هو غصب يجب رد عينه أو بدله، حيث استهلكوه إلى مستحقه إلا أن يجهل ويقع اليأس من معرفته فيصير مظلمة مجهولة ولاية صرفها من هي في يده، فيلزمهم الإمام التخلص منها إن تراخوا، وكذا من استهلك ما وجب عليه من الأعشار ونحوها فلا بأس بتضمينه عوض ما استهلك منها بعد اليقين، بحيث لا يتجاوز حد ما استهلك منها.
وأما التوسع في التضمين لكل أحد مع عدم حصول العلم بثبوت شيء منها في ذمته، فمخالف للشريعة، ولا قائل بجوازه.
وأما إفتاء عوام العمال بأخذ الأموال على الوجه الذي قدمناه، فمن الأمور المنكرة التي[103ب] لا قائل بها فيما نعلم من الأئمة والأمة؛ لأن هؤلاء الذين صار العمال يثبون على أموالهم بالطرق التي ذكرناها مسلمون مؤدون للواجبات، لم يستولوا على شيء من أموال الله حتى يضمنوا أو يصادروا، والمنتهك لحرمة أموالهم وأعراضهم مخالف لله ورسوله وأئمة الهدى.
لا يقال: بل يجوز للإمام أو يجب عليه تضمين كل أحد، وأخذ ما في يده؛ لكثرة التظالم ومنع الواجبات، والتعامل بالربا، وبعد عهدهم بأئمة الحق، فاختلطت الأموال، والتبس الحرام بالحلال؛ لأنا نقول: أما في هذه الأزمنة فالسؤال مرتفع بالأصالة لوجود أئمة الحق، وتأدية الواجبات، وعدم وجود التظالم بين المسلمين.(1/390)


وعلى تقدير وورد السؤال فالأصل بالنظر إلى كل واحد من الناس بانفراده براءة ذمته وملكه لما في يده؛ إذ اليد دليل الملك، ولم تزل الأموال مختلطة والتظالم حاصلاً، ومنع الواجبات كائناً، ومعاملة أهل الكتاب فاشية؛ وقد نص سبحانه على أخذهم الربا وأكلهم السحت، ولم يترك جميع الناس ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كما لم يتركوا كلهم سائر المعاصي، من الزنا وشرب الخمر وغيرهما كما هو معلوم، ومع ذلك فلم يقض النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] بأن ما في أيدي الناس قد صار بيت مال؛ لاختلاط الحرام بالحلال، ولا قضى بذلك أمير المؤمنين [عليه السلام] ولا غيره من الصحابة، مع تغلب الناكثين والقاسطين والمارقين في أيام أمير المؤمنين، واستيلائهم على كثير من البلاد، ووقع بسبب ذلك من النهب والتظالم ما هو معروف.
ثم بعد ذلك نهبت المدينة ثلاثة أيام: يوم الحرة نهبها عسكر يزيد -اللعين- ولم يمتنع أحد من الصحابة والتابعين لأجل ذلك من معاملة الناس والشراء من الأسواق، ولا قضى أحد بأن جميع ما في أيدي الناس قد صار بيت مال لاختلاط الحرام بالحلال، ثم جرى على ذلك أكابر الأئمة عليهم السلام فلم يؤثر [104أ]عن أحد من قدمائهم أنه قضى بأن جميع ما في أيدي الناس بيت مال، ولا ضمنوا أحداً، ولا عاقبوه بأخذ شيء مما في يده وإن كان مخالفاً عاصياً، وقد سبق عن أئمة العترة منذ رسول الله صلى الله عليه [وآله وسلم] إلى زمنك.
هذا ما يعلم به المنصف براءتهم من العمل بذلك ومن القول به، مع أن الهادي [عليه السلام] خرج إلى (اليمن) ولا مريد على ما أهله عليه من كثرة التظالم، ومنع الواجبات، وفشو الربا، وبعد العهد من أئمة الحق؛ فلم يضمن أحد منهم قط، بل تحرج من القرض بغير رضاء أربابه مع تسويغ الشريعة له عند الحاجة، وعلى مثل ذلك جرى الأئمة الهادون كما سبق ذكره في أحوالهم وشمائلهم .(1/391)

78 / 95
ع
En
A+
A-