[حكم التأليف لرفع مفسدة]
وكذا يجوز التأليف لرفع مفسدة في الدين بإسقاط الحق مطلقاً، فإن عظمت المفسدة جاز بفعل المحظور كما جاز بالإكراه فعل القبيح عند خشية التلف، أو ذهاب عضو أو نحوه [100ب].(1/382)


[المفاسد التي أحدثها العمال بدون إذن ولي الأمر]
إذا عرفت هذا فهاهنا مفاسد أحدثها العمال، واتخذها عوامهم عادة يحيلون ما تفرع من مفاسدهم عليها.(1/383)


المفسدة الأولى
ما تهور فيه العمال من التأديب بالمال، والعقوبة بالمال، إما بأخذه أو بإتلافه، والأمر في ذلك كما حققه الفقيه العلامة: محمد بن يحيى بن بهران رحمه الله وغيره من علمائنا إنها إما بأخذ المال أو بإتلافه، ولا شك ولا شبهة في أن دليل العقل ناهض، والقرآن ناطق، والسنة متواترة، والإجماع منعقد على تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم إلا ما دل دليل قاطع على استباحته إذا ثبت هذا فلا يجوز العمل بما صادم تلك الأدلة وإن اقتضته السياسة؛ فإن الله ورسوله لم يتركا في الشريعة نقصاً يحتاج إلى التكميل، قال تعالى: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا?[المائدة:3].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)). وقد مر في هذا المعنى من الأدلة ما فيه كفاية.
وأما حديث: ((من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء)) فقد صرح الحفاظ من أئمتنا وغيرهم بأن إسكان الطاء وهم من بهز بن حكيم راوي الحديث؛ والرواية: وشطر ماله على البناء للمفعول أي جعل شطوراً ثلاثة: أعلى وأوسط وأدنى؛ ليأخذ المصدق الصدقة مما أمر بأخذها منه؛ وما ورد من الأخبار والآثار التي يفهم منها جواز العقوبة بالمال، إما مضعف كما ذكره في (شرح مسلم) فإنه مما انفرد به صالح بن محمد بن سالم وهو ضعيف، أو منسوخ، فإن الجمهور من المحققين متفقون على نسخ العقوبة بالمال ويدعون الإجماع عليه.(1/384)


وأما ما يروى عن ابن عمر من تحريق الرجل فقول آحاد الصحابة ليس بدليل شرعي؛ ولذا أحرق أمير المؤمنين [عليه السلام] مال آكل الربا، ولم يأخذ إلى بيت المال منه شيئاً؛ وقد كان في زمنه عليه السلام [101أ] وفي زمن من سبق قبله في العصاة كثرة، وفيهم من معصيته أكثر من معصية غيرهم، ولم يرو عنه ولا عن غيره أنه عاقب أحداً من أولئك بأخذ شيء من ماله، وكذا لم يؤثر ذلك عن أحد من أكابر الأئمة المتقدمين، كزيد بن علي والهادي والناصر، والمؤيد بالله وأمثالهم، بل المعروف عنهم اجتناب ذلك والتنزه عنه.
وأما ما يروى عن بعض الأئمة المتأخرينٍ فحكايات أفعال لا تعرف وجوهها، وأقوال آحاد الأئمة وأفعالهم ليست من الأدلة الشرعية، وإذا كان لا يتأسى بشيء من أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد معرفة وجهه كما علم في الأصول فكيف بأفعال غيره، وظاهر كلام كثير من العلماء أن العقوبة بإتلاف المال منسوخ وغير جائز، ولا يبعد القول بجوازها في حق بعض الناس إذا رأى الإمام في ذلك مصلحة لا تعارضها مفسدة؛ إذ الدليل على جوازها أظهر كما في حديث: ((لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عن الصلاة فآمُر بهم فيحرقون بيوتهم بحزم الحطب...))الخبر وهو وإن كان محتملاً للنسخ، ففي فعل أمير المؤمنين دليل على بقائه، ومثله روي عن الهادي [عليه السلام]، وغيره من الأئمة من قطع نخيل المخالفين وهدم دورهم؛ فليس في العقوبة بإتلاف المال مثل ما في العقوبة بأخذه من التهمة التي ورد النهي عن الوقوف في مواقفها من التشبيه بالجبابرة الظلمة في مصادرات الناس وأخذ أموالهم بغير حق، وغير ذلك من المآثم، على أن اجتناب العقوبة بإتلاف المال أحوط وأرجح، ولأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة كما ورد في الأثر؛ هذا كله فيما وضح فيه موجب التأديب بأمر صحيح شرعي.(1/385)


وأما في زماننا فقد تتابع العمال في التأديب بالمال، وانتهكوا حرمة الدين بأخذه على الوجه المحظور الذي لا يسوغ أخذه بحالٍ إجماعاً؛ فإنهم اتجروا في الرعية وجعلوهم غرضاً لسهامهم، ورمية لنبالهم[101ب] وتهوروا في ذلك بأن جعلوا من يتجسس الأخبار لهم، فيبالغوا في نقل ما يقع إما بطريق الخبر الذي لا يحل به مال المسلم أو غيره من الظنون المنهي عنها، فإذا بلغ إلى العامل ما رقمه ذلك المتجسس وجه العسكر في طلب المنقول عليه، فيرعبه العامل، ويتوعده بالحبس والقيد ليخلص نفسه من ورطته بمالٍ يؤديه إليه، ثم يغلظ عليه في اليمين بعدم العود إلى ما نقل عليه تنميقاً لفعله وتستيراً لما أخذه بجهله، ثم انتهى بهم الأمر إلى أن يطلبوا رجلاً بتهمة من أهل بلده أو غيرهم، فإن امتنع من جعلوه في الصورة متهماً له عن تهمته طلبوه ووضعوا عليه مالاً يسمونه نفاعة وأجرة لمن أحضره تصير كلها إلى العامل، ثم يتوعدونه بالحبس وإرسال عسكرهم إليه حتى يبين له متهماً، فيضطرونه إلى أن يتهم من طلبوه أولاً أو غيره، ثم يحلفونه يميناً يرون العدل بها في ظاهر الأمر أنه لا تهم له غيره، فإذا حلف هذه اليمين الكاذبة حل لهم انتهاك عرض المتهم بحبسه أولاً، ويطولون حبسه حتى يأتي إليهم الشفعاء من أقاربه يسألونه إطلاقه، فيغلظ لهم العامل القول، ويريهم ارتطام المتهم في المعاصي وظهورها عليه، وأنه قد تلقى معرفة أحواله وبحث عنها، وفي خلال ذلك يتردد القول بين العامل والشفعاء بواسطة كتاب العامل ونوابه بأن يضع عليه مالاً يسمونه الأدب مغايراً لما سلمه أولاً مما يسمونه النفاعة؛ وإذا حضر الأدب طلب الكفلاء والضمناء عليه إن عاد إلى ما نسب إليه ليكون وسيلة ثانياً إلى أخذ مال الضمناء عند أول نسبة، فقال في المحبوس وليكون ذلك في بادئ الأمر محسناً لفعل العامل وحبسه وتأديبه، وأن مغزاه ليس إلا استصلاح الرجل وتطهيره من الدنس الذي اتهم به، ثم آل بهؤلاء العمال الأمر إلى(1/386)

77 / 95
ع
En
A+
A-