فقال: أظهر الحق يتبعك أهله، وقال له آخر: إن الله استرعاك نفوس المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الآجر والجص، وأبواباً من الحديد، وحجبةً معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها منهم، وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها، واتخذت وزراء وأعواناً ظلمة إن نسيت لم يذكروك، وإن ذكرت لم يعينوك، وأمرت ألا يدخل عليك إلا فلان وفلان ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف، والجائع والعاري، والضعيف والفقير، وما أحد إلا وله في هذا المال حق -وساق الكلام إلى أن قال: فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك، وإن أراد رفع قضيته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، فإذا جهد وخرج وظهرت صرح ذلك بين يديك، فيضرب ليراه غيره وأنت تراه ولا تنكر؛ فما بقاء الإسلام وأهله على هذا، وقد سافرت إلى الصين وبها ملك، فقدمت منها مرة وقد ذهب سمع ملكهم، فجعل يبكي فسأله وزيره فقال: لا أبكي على السمع، ولكني أبكي المظلوم يصيح[95أ] فلا أسمع صوته، أما إنه لو ذهب سمعي فبصري باقٍ، نادوا ألاَّ يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم؛ وكان يركب الفيل طرفي النهار، هل يرى مظلوماً، فهذا مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين على شح ملكه، وأنت مؤمن بالله وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا تغلب رأفتك بالمسلمين على شح نفسك، فبكى حتى انتحب فقال: كيف احتيالي فيما خولت ولم أر الناس إلا جافياً؟
قال: عليك بالأئمة الأعلام المرشدين.
قال: من هم؟
قال: العلماء.
قال: قد فروا مني.
قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك، ولكن افتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانتصف للمظلوم من الظالم، وامنع الظالم من المظلوم، وخذ الشيء مما حل وطاب، واقسمه بالحق والعدل، وأنا ضامن على من هرب منك أن يأتوك فيعاونوك على إصلاح أمرك ورعيتك…إلخ.(1/357)


[بين المنصور العباسي ورجل]
وقال رجل للمنصور : إن لي ظلامة وعندي مثلاً، فأضرب مثلي أم أذكر ظلامتي؟
فقال: بل تضرب مثلك وتذكر ظلامتك.
فقال: إن الإنسان إذا كان في حجر أمه وتأتيه نائبة فزع إلى أمه فنادى يا أماه، فإذا خرج من الطفولة وترعرع عرف أن له أباً هو أحمى من أمه، وأعز جانباً، فلم يخف من شيء إلا فزع إلى أبيه فنادى يا أبتاه، ثم إذا خرج من ذلك، واستولى عليه عقله علم أن لله في أرضه سلطاناً يأخذ للمظلوم من الظالم، وتيقن أنه أعز جانباً من أبيه فلم يخف من شيء إلا رفعه إلى سلطانه، فإن أخذ له بحقه زاده ذلك في طاعته وسكن إلى ظله وأشركه في دعائه، وإن لم يأخذ له بحقه رفع حاجته إلى الله -تعالى- فبكى المنصور وقال: أعد عليّ، فأعاده مراراً وهو يبكي وقال: ما ظلامتك؟ فذكرها ثم قال: إن أنصفتني وإلا فهذا وجهي إلى البيت الحرام أعرضك على الله، فأمر بإزالة ظلامته وأحسن إليه ثم قال: قد أنصفتك فلا تعرضني عامك هذا على الله تعالى[95ب] واجعل لنا منك كل عامٍ زورة، فلعل الله أن ينفعنا بك.(1/358)


[بين الأوزاعي والمنصور]
وقال الأوزاعي لأبي جعفر: قد كنت في شغلٍ من خاصة نفسك عن عامة الناس الذي أصبحت تملكهم، أحمرهم وأسودهم، وكلٌ له نصيب عليك من العدل، فكيف بك إذا انبعث إليك منهم فئام وراء فئام، ليس منهم أحد إلا وهو يشكو منك بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه، ثم قال: حدثني مكحول، عن عروة قال: كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين، فأتاه جبريل فقال: ((يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك، وملأت قلوبهم رعباً)) فكيف يا أمير المؤمنين بمن سفف أبشارهم، وسفك دماءهم، وأخرب ديارهم، وأجلاهم من ديارهم، وغشيهم الخوف منه، يا أمير المؤمنين، بلغني أن عمر بن الخطاب قال: (لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة خشيت أن أسأل عنها) فكيف بمن حرم العدل وهو على بساطك، إنك قد بليت بأمر لو عرض على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها.(1/359)


[كتاب بعض الصالحين لهارون الرشيد]
وفي كتاب بعض الصالحين إلى هارون: أما بعد .. فإني قد صرمت حبلك، وقطعت ودك، وقليت موضعك، فإنك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت عليه من بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه، وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترض بما فعلت وأنت ناءٍ عني حتى كتبت إليّ تشهدني على نفسك، أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك، وسنؤدي الشهادة عليك بين يدي الله تعالى؛ فشد يا هارون مئزرك، وأعدد للمسألة جواباً، وللبلاء جلباباً، واعلم أنك سوف تقف بين يدي الله الحكم العدل...إلى أن قال: يا هارون، لبست الحرير، وقعدت على السرير، وأقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون، يشربون الخمر [96أ] ويضربون من شربها، ويزنون ويحدون الزاني، ويسرقون ويقطعون السارق، أولا كانت هذه الأحكام جارية عليك وعليهم قبل أن تحكموا بها على الناس .(1/360)


(قصص وحكم وآداب)
خرج بعض ملوك العجم، فانفرد عن أصحابه وانتهى إلى بستان فيه امرأة ذات هيئة.
فقال لها: مثلك لا ينبغي أن يكون في مثل هذا الموضع.
قالت: كذا يكون الناس إذا لم يكن لهم ملك ينظر في أمورهم.
قال: وما ذاك؟
قالت: إن زوجي مات وترك عيالاً علي، وترك ضيعةً لنا نعيش بها، فعدى علينا وزير الملك فأخذها، فأتيت القاضي فلم ينصفني، وأتيت الحاجب ليدخلني على الملك فلم يفعل، فقال: خذي هذا الكتاب فانطلقي به إلى صاحب الشرطة فإنه سينصفك.
قالت: لا أرجو الإنصاف.
قال: ليس يضرك هذا الكتاب إن لم ينفعك.
فمضت به إلى صاحب الشرطة فقبله وقرأه، ثم دعا الجلادين وقال: إن الملك أمر أن أقوم فتجلدوني بالسياط حتى يبتل عقبي من دمي -فضربوه، ثم قال: إن الملك يأمرني أن أسود وجهي، وأركب الجمل ووجهي إلى ذنبه، ويقاد الجمل بي إلى باب الملك -ففعلوا ذلك- فلما انتهى إلى باب الملك قال: ما حملك على أن أتتك امرأة متظلمة فلم تنصفها؟ قال :خفت وزيرك، فأمر بضرب عنق الوزير ورد الضيعة على المرأة وقال: إن الملك لا يدوم إلا بالعدل، فإذاكان بالظلم فذلك عليه وليس بملك.(1/361)

72 / 95
ع
En
A+
A-