قال والدي قدس الله روحه قبل أن يفتح الكتاب: سننظر ما الذي رقمه بخطه في حواميه، وما الذي يعني بذكره فيه فهو عنوان[92أ]أخلاقه وشمائله، وقد كان والدي يعرف أحواله بالأخبار من أخي رحمه الله ففتح والدي حامية كتابه المشار إليه، فإذا هو مملوء من فوائد في الزهد والترغيب في الآخرة، وأشعار في ذكر الموت والمعاد، والحث على الخير، والثبوت على الطاعة، والمتاب، وما يشبه ذلك، فعجب والدي رحمه الله وازداد يقيناً فيما عرفه من أحواله بطريق الخبر؛ وكنت كثير الشوق إليه عليه السلام خصوصاً حين أخبرني أخي رحمه الله أنه أيده الله رآني في النوم كأني عنده وهو يذاكرني بشيء من المسائل، وفي خلال ذلك كنت أحثه على الجد في درس العلم وتدريسه، والاجتهاد في ذلك، ثم انتبه عليه السلام من النوم وأنا أقول له ذلك؛ فقص الرؤيا على صنوي رحمه الله في خلال درسهم -أظن في هداية الأفكار- ليسمعا ما درسا على الإمام رضوان الله عليه وكان اجتماعنا به بعد ذلك كالمعبر لهذه الرؤيا.(1/342)
الباب الرابع
في فصول أوردها الفقيه العلامة محمد بن يحيى بن بهران رحمه الله في (بهجة الجمال) وهذا الفقيه من شيعة الإمام شرف الدين عليه السلام أثنى عليه الإمام شرف الدين في إجازته الكبرى له وللعلامة محمد بن عمر.
قال عليه السلام بعد الحَمْدَلَةِ والتصلية: وبعد.. فإنه طلب مني الفقيهان العالمان، الحبران الأفضلان، الفقيه الفاضل، المحدث الأصولي اللغوي المفسر، فريد دهره، وشمس عصره، وزينة مصره، عين أعيان العلماء من شيعتنا العاملين، المحيي لسنة رسول رب العالمين، من علمه ممدود بسبعة أبحر، ويومه في العلم كعمر سبعة أنسر، العلم حشو ثيابه، والأدب ملء إهابه، ما يؤنسه من الوحشة إلا الدفاتر، ولا يصحبه في الوحدة إلا المحابر علم[92ب] الفضل، وواسطة عقد الدهر، ونادرة الدنيا، وغرة العصر، علامة الأوان، المفسر المحدث للقرآن، عز الدين: محمد بن يحيى بن بهران البصري؛ ثم ساق عليه السلام الكلام في الإجازة لهما، وأحسن بمن يقول فيه مثل هذا الإمام العظيم ما ذكرناه من النعوت التي لا تطلق إلا في مقام التشريف والتعظيم.(1/343)
[بين عمر بن عبد العزيز ومولاه]
فمما ذكره الفقيه المذكور في (بهجة الجمال): أنه لما بويع لعمر بن عبد العزيز قال مولاه: كأنك مهتم يا أمير المؤمنين؟
قال: لمثل هذا الأمر الذي نزل بي اهتممت، إنه ليس من أمة محمد أحد في مشرق ولا مغرب إلا وله قبلي حق يحق عليّ أداؤه غير كاتب فيه إليّ، ولا طالب له مني وقالت زوجته فاطمة بنت عبد الملك: ما أعلم أنه اغتسل من جنابة منذ استخلف حتى قبض.
قالت: وجعل يبكي ذات ليلة ويشهق، فأقول: خرجت نفسه أو انصدعت كبده حتى برق الفجر فسألته، فقال: دعيني.
قالت: إني لأرجو أن أتعظ .
قال: نظرت فوجدتني وليت صغير هذه الأمة وكبيرها، ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلني عنهم، وأن محمد اً صلى الله عليه [وآله وسلم] يحاجني فيهم، فخفت أن لا يثبت لي عند الله عذر، ولا تقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة، فخفت على نفسي خوفاً دمعت له عيني، ووجل له قلبي، فأنا كلما ازددت له ذكراً ازددت منه وجلاً، وقد أخبرتك فاتعظي الآن أو دعي، وقال يوماً لجلسائه: من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدل على ما لم أهتدِ إليه، ويكون لي على الخير عوناً، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي عني الأمانة التي يحملها بيني وبين الناس؛ فإذا كان كذلك فحي هلا به، وإلا فهو في حرج من صحبتي؛ وكتب إليه واليه بالموصل أنه وجدها من أكثر البلاد بغياً وسرقة، وسأله: هل يأخذهم بالظنة، ويضربهم على التهمة، أو يأخذهم بالبينة وبما جرت به[93أ]السنة؟
فكتب إليه: أن خذهم بالبينة وبما جرت به السنة؛ فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله.
قال: ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها بغياً وسرقة.(1/344)
[بين عمر بن عبد العزيز و عامله عدي بن أرطأة]
وكتب إليه عامله عدي بن أرطأة: أما بعد، فإن قبلي ناساً من العمال قد اقتطعوا من مال الله مالاً عظيماً لست أرجو استخراجه منهم إلا أن أمسهم بشيء من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين أصلحه الله أن يأذن لي في ذلك فعل، فأجابه: أما بعد..
فإن من العجب استئذانك إياي في عذاب بشيء كان بك جنة من عذاب الله، وكان رضاي ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر ما قامت عليه بينة عدول فخذه بما قامت عليه به البينة، ومن أقر لك بشيء فخذه بما أقر به، ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم ثم خل سبيله، وأيم الله لأن يلقوا الله بجناياتهم أحب إليّ من أن ألقى الله بدمائهم والسلام.(1/345)
[بين عمر بن عبد العزيز وبعض ولاته]
وكتب إليه بعض ولاته: إن الناس لما سمعوا بولايتك سارعوا إلى أداء زكاة الفطر، فقد اجتمع من ذلك شيء كثير، ولم أحب أن أحدث فيها شيئاً حتى تكتب إليّ. فكتب إليه عمر يقول: لعمري ما وجدتني وإياك على ما ظنوا، وما حبسك إياها إلى اليوم ؟! فأخرجها حين تنظر في كتابي والسلام.(1/346)