وبعبارة أخرى وهي : أن حديث: ((أخرجوا اليهود)) المخصص لقوله تعالى: ?حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ?[التوبة:29] يفيد أنا لما عرفنا من الحديث الحكم بثبوت قتالهم عند الامتناع ولو أعطوا الجزية كان ثبوت قتالهم عنده مخصصاً للعموم المحكوم بمنع قتالهم عند إعطاء الجزية، فقد أخرجنا عما تناوله ظاهر لفظ العموم بعض ما تناوله هذا العام، وهو الممتنع من الخروج من الجزيرة، والإخراج ليس على الحكم أو الإرادة نفسيهما؛ فإن المخرج من العموم وهو الممتنع لم يدخل في الحكم أو الإرادة حتى يخرج عن أيهما، كما أن الإخراج أيضاً ليس عن الدلالة وهي هنا كون لفظ: ?حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ?[التوبة:29] إذا أطلق فهم منه امتناع قتالهم جميعاً؛ لأن هذا موجود مع التخصيص، ومنه قلنا: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة والتخصيص هنا يفيد تعليق الحكم بمنع القتال ببعض مخصوص وهو من إعطاء الجزية ولم يخاطب بالخروج، إما لكونه في غير الجزيرة أو خوطب به فيها والحال أنه غير ممتنع من الخروج؛ فحديث: ((أخرجوا اليهود)) قاصر عموم منع القتال على البعض المذكور، والمخصص بالفتح هو من حكمنا عليه بمنع القتال بالمعنى المشهور؛ وكون المخصص بالفتح من امتنع من الخروج مذهب معروف لغير الجمهور، والمخصص بالكسر حقيقة هو إرادة المتكلم لثبوت قتالهم عند الامتناع، وكثيراً ما يطلق على اللفظ الدال على إرادة ثبوت قتالهم مجازاً؛ أخرجته الشهرة إلى حيز الحقيقة، تسمية للدال باسم المدلول.
ولما انتهى ما استدركنا به على من أشرنا إليه إلى الإمام المهدي رضوان الله عليه.(1/332)
[بين المهدي و المؤلف]
كتب عليه السلام إلينا كتاباً بسيطاً بخط القاضي العلامة الوحيد، واسطة عقد علماء العدل[89أ]والتوحيد: عبد الواسع بن عبد الرحمن-أحسن الله إليه- وهو من رجال الدهر علماً وعملاً، وفضلاً وفصلاً، وهو من أصدقاء أبي وجدي قدس الله أرواحهما وموجب هذا الكتاب من الإمام رضوان الله عليه أنه كان وصل إلينا منه كتاباً يتضمن النهي عن الربا والوقوع فيه، وإسقاط ما زيد لأجله، والنهي عن عسف الرعية؛ وكنا أنفذنا ما رآه الإمام، وأمرنا سد ذرائع الربا في جميع الجهات، ووقع من بعض القضاة مخالفة لما أمرنا به فقال عليه السلام في كتابه إلينا بعد الترجمة والتحية وبعد:(1/333)
فإنه وصل كتابكم الكريم، وخطابكم العظيم، تذكرون فيه ما فعلتم فيما اتصل بكم شجاره، كما أمرناكم من إزالة الزائد على رأس المال حتى لا يَظْلِمُون ولا يُظْلَمُون، فمضى على ذلك ناس وتأبى أناس وسطاءهم بعض من تنوزع إليه من الحكام، ممن لا يخاف من الله الملام، فالمغزى حينئذ منا هو السابق الإلزام، فمن أجبر على خلافه وتبلغ إلينا نقضنا ما فعله ذلك الحَكَمْ، ورددناه في وجهه ولا نتلعثم، وأنصفناه من غريمه برد ما أخذ منه بوجه الكظم -إن شاء الله- وأنا على بصيرة من الأمر، وعاملون بما أوجب الله في قوله: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا?[البقرة:278] وإلا آذناه بحرب، فعليكم الإشعار بذلك، والإيذان بما نطق به القرآن، والرجل الواصل بكتابكم قد فعلنا له ما لا يلجأ معه إلى شيء يخالف ما ذكرتم -إن شاء الله- وساق عليه السلام كلاماً طويلاً في شأن المصادقات الواقعة عند الحاكم على شيء معلوم من الدين، وأنه إذا ظهر للحاكم وقوع المصادقة قبل قبض ما تصادقوا عليه كما يفعله كثيرون، فلا بد من البينة على قبض ما تصادقوا عليه، ثم ذكر بعد ذلك في شأن ما انتهى إليه من استدراك على من قال: إن قوله تعالى: ?حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ?[التوبة:29] مطلق مقيد بحديث: ((أخرجوهم من جزيرة العرب)) ما لفظه: وذكرتم استطراداً من المذاكرة في مسألة اليهود[ 89ب] أخزاهم الله- وأن الآية الكريمة في سورة براءة ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ…?إلى آخر الآية[التوبة:29] مع الحديث المشهور المتواتر أو اللاحق به: ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب)) من العموم والخصوص لا من المطلق والمقيد كما فهمه من ذكرتم؛ فالأمر كما ذكرتم من باب العموم والخصوص في الأزمنة والأمكنة لا من المطلق والمقيد؛ بيانه: أن الآية الكريمة عامة في وجوب قتالهم في جزائر العجم والعرب؛ لأن الزمان والمكان من ضروريات القتال(1/334)
إلى أن يعطوا الجزية، فإذا أعطوها فلا قتال، وقررناهم عليها أينما سكنوا، ثم كان منه صلى الله عليه وآله قوله: ((أخرجوا اليهود عن جزيرة العرب)) مطلقاً سواءً أدوا الجزية أو لا؛ فقضى بأنا نخرج منهم من وجد في جزيرة العرب وهم بعض من ذلك العموم؛ وكان التخصيص لبعض الأشخاص وبعض الأمكنة، وما عدا ذلك فهو على ذلك الحكم؛ والأمر واضح في ذلك ولا إشكال، والخصوص قاضٍ على العموم تقدم أو تأخر أو التبس؛ ومن المعلوم تأخر الحديث عند كل محدثٍ أو متأهل للعلم، وفيما حققتموه كفاية) إلى آخر ما ذكره -رضوان الله عليه.
ولما أوقع عليه السلام بأهل (سفيان) لخفرهم ذمته في الركب الخارج من (صنعاء) إلى جهات (صعدة) وعاد إلى (الغراس) سالماً غانماً، ابتدأ به المرض، وورد الخبر بوفاته رحمه الله في شهر جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وألف.(1/335)
[(79) الإمام المؤيد محمد بن إسماعيل]
( 1044 - 1097 هـ / 1634 - 1686 م)
فقام بعده الإمام العادل، الجامع لشرائط الإمامة الكبرى مولانا أمير المؤمنين، وخليفة النبي الأمين، المؤيد بالله رب العالمين: محمد بن أمير المؤمنين المتوكل على الله أيده الله واتفق العلماء على إمامته بعد اجتماعه بأخيه وابن عمه المولى[90أ] علم الإسلام والمسلمين، بركة علماء العترة المطهرين، وعمدة أكابر الآل المكرمين: القاسم بن أمير المؤمنين أيده الله في عدة من أولاد الإمام وغيرهم بمحروس (خمر) بعد مفاوضات طويلة اتفق الجميع على إمامة الإمام المؤيد بالله أيده الله.(1/336)