وأما تمييزه بما قلت: إنه تنقيح مناط، فلا يخرجه عن كونه مجازاً؛ لخفاء عموم الخبث بالمعنى الذي أردناه، كما أشار إليه قولك: إنه واحد مخصوص من معانيه؛ وإطلاقه على بعض أفراده إن أردت به عدم صحته[78أ]إطلاقه في هذه المسألة وغيرها على غيره من معاني لفظه المشترك، كما هو صريح كلامك في المذاكرة الأولى؛ فتخصيصه بأحدها وهو الضار، إما من جهة اللغة أو الشرع أو العرف؛ والثلاثة غير مسلمة فيما نحن فيه.
أما اللغة: فلا نسلم أن واضع اللغة وضع هذه اللفظة للضار بخصوصه دون سائر معاني الخبث المشهورة، بل الوضع اللغوي ظاهر في كلٍ منها جميعاً.
وأما الشرع: فنصوص الكتاب والسنة صريحة فيما ذكرناه كما أشرنا إلى تعداده في المذاكرة قبل هذه.
وأما العرف: فظاهر عدم تخصيص العرف العام أو الخاص له بالضار دون سائر معانيه المختلفة فثبت ما ذكرناه؛ هذا في دلالته على معانيه بالمعنى المذكور، إما على جهة البدل نحو: أخرج عيناً ويراد به جارية وجارحة على جهة البدل، فالأمر فيه أظهر، وهو في المثنى والمجموع أظهر وأظهر؛ لوضوح وقوعهما باعتبار معانيهما نحو: عينان، فإنه بمنزلة قولك: عين وعين، فكما يجوز اختلاف معناهما بغير تثنية يجوز اختلاف ما ناب عنهما وهو: عينان.
ولا ينبغي أن يبنى الخلاف فيهما على الخلاف في المفرد؛ لأنه إنما امتنع عند المخالف في المفرد لعدم دلالته على الكثرة، فأما المثنى والمجموع فيدلان عليها، وإن كانت من أجناس كما مر، ثم إنه في المنفي والمنهي صريحاً نحو: لا يخرج عيناً، أو ما في معناه نحو: ?وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ?[الأعراف:157] أكثر ظهوراً في معنى العموم الحقيقي.
أما الثاني: فلكونه جمعاً وقد عرفته، ولكونه في معنى المنفي؛ إذ هو في قوة: لا تحل لكم الخبائث، أو لا تقربوا الخبائث؛ فدلالته على الكثرة مما لا شك فيه، سواءً اختلفت كما في المشترك، أو اتفقت كما في المتواطئ.(1/312)
وبهذا يعلم صحة ما ذهبنا إليه، وأن المصير إليه متعين إما بالنظر إلى اجتماع الأوصاف التي سبق تعدادها في المذاكرة قبل هذه في المسألة المبحوث عنها، ودخولها تحت معنى واحد وهو الضار، فيعود كما ذكرناه إلى الوفاق، ويحمد مسرانا في رياض التحقيق عند صبح الاتفاق، وإما لصحة اجتماع سائر المعاني فيه كالسيد للمالك[78ب]والرئيس، وكالمولى في حديث: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) أولانا الله –تعالى- وإياه والمسلمين من نعمه التي لا تنحصر بتعداد، وأمدنا بمواد إحسانه المتواصلة الإمداد، وجعلنا من أئمة متقيه الهادين إلى سبيل الرشاد، الجامعين بين هداية النفس وهداية العباد، والحمد لله وصلواته على محمد وعلى آله الأمجاد). انتهى ما أوردناه في هذا البحث.
وهذه الشجرة التي وقعت فيها المراجعة من المفاسد التي يأتي ذكرها، ويتحتم النهي عنها؛ لما تقرر من تحريمها بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة كما عرفته.(1/313)
[(77) (78) يحيى والقاسم بن أحمد بن محمد الشرفي]
( ... - 1089 هـ / ... - 1676 م)
وقد ذكرنا في هذه المذاكرة السيد عماد الإسلام: يحيى بن أحمد الشرفي –قدس الله روحه- وكان من أكابر العلماء، وأعيان العترة العظماء، وهو ابن أخت جدي المجتهد رضوان الله عليه أقام في هجرتنا (الشجعة) مدة أخذ فيها شطراً صالحاً من العلوم على جدنا رحمه الله هو وصنوه السيد الجليل: القاسم بن أحمد رحمه الله، ثم أقام مدة أخرى وأخذ على أبي -بقية المحققين: الناصر بن عبد الحفيظ –نفع الله به- علوم القرآن جميعها وحقق فيها تحقيقاً عظيماً، وتولى في آخر مدته أعمال الوقف في الجهة الشرفية بواسطة جدنا رحمه الله فإنه وقع من العامل الأول موجبات لعذره عنها، وتولية السيد رحمه الله أمرها منها مخالفة أوامر الأئمة في إحياء الهجر الشرفية، والاكتفاء من العامل الأول عن إحيائها بجعل جماعة يدرسون في بلد من بلدان الجبر فرفع جدنا الأمر في ذلك إلى الإمام المتوكل عليه السلام وعين عليها السيد عماد الدين المذكور، وقام بأعمال التدريس وإحياء الهجر أتم قيام، وكان يؤثر أعمال التدريس في هجرتنا المقدسة؛ لما جمعت من علوم الاجتهاد، وفي آخر مدة السيد رحمه الله فترت المذاكرات في جميع الهجر الشرفية، وأهملت بالكلية؛ وسبب ذلك تتابع[79أ]الشدة والجراد، وكان السيد رحمه الله كثير التأسف على الأحياء فيها، وعلى عدم مطابقة قصد الواقف بصرف منافع كل هجرة في المساجد الموقوف عليها، ويتحرج مما وقع من نقل الحقوق عن مواضعها، ويصرح بأنه مخالف للشريعة المطهرة أعزها الله خصوصاً مع كثرة مقررات من عين منافع الوقف يؤخذ قبل الإحياء والتدريس، وفيها مخالفة قصد الواقف؛ ومطابقة قصده واجب شرعاً، فإنا لو فرضنا الواقف حياً وسألنا عما يستغرق من منافع وقفه في هذه المقررات وتأثيرها على عمارة المساجد الحقيقية والدينية لنفر عن ذلك، ولعل هذا منكراً يأباه كل مؤمن بالله ورسوله.(1/314)
وقد ذاكرت إمام عصرنا أيده الله بمثل هذا، وأوردت سؤالاً أردت أعرف به اختياره عليه السلام فيما يأخذه نواب الوقف وغيرهم من عين الوقف، ويجتحفونه من غلاته، وينقلونه من مواضع الأحياء لأنفسهم مع إماتة مواضع الأحياء جميعها ووجود الطلبة والمحبين فيها، وهم يسألون من منافع أوقاف مساجدهم ما يحيون عليه، فلا يمكنون من شيء البتة، بل تؤخذ غلات المساجد من بين أيديهم ويتصرف فيها النواب بالشياطه لأنفسهم، ويؤثرون بها أعمال بيوتهم وتصرفاتهم، ويتوسعون في العروض الأثيرة، والنفائس الخطيرة، ويعمرون بيوتهم وأموالهم، ويكتسبون الأطيان، ويستندون في ذلك إلى إذن إمام الزمان عليه السلام ولو علمه لنهى عنه وحرمه، وهذه مفسدة في الدين، ومصيبة في المسلمين، لا يرفعها إلا نظر الأئمة الهادين، ونهي فضلاء المعاصرين من العلماء العاملين، الذين لا يبالون في الزجر عن مثل هذه المنكرات بلومة اللائمين، ولا يعرجون على ما يوجب المداهنة في الدين.
والذي علمنا من اختيار إمام العصر، وتحرجه عن مثل هذه[79ب]الأمور التي ذكرناها هو العزم على وضع الحقوق في مواضعها، وصرف المنافع من الأوقاف في مصارفها من المحبين، وطلبة علوم الأئمة الهادين، وعدم جواز نقل الحقوق عن مواضعها، ومطابقة قصد الواقف فيها؛ فإنه عليه السلام صرح لنا أيام الاجتماع به في (السودة) المحروسة بمثل هذا، وأمر في شأن أوقاف الجهة اللاعية بمؤدى ما ذكرناه، ونرجوا جري الأمور -إن شاء الله تعالى- ببركاته في هذه الجهات على نهج الشريعة المطهرة أعزها الله وعلى ما علمناه من قصده واختياره.(1/315)
[استئناف المؤلف لترجمة الشرفي]
عدنا إلى ذكر السيد عماد الدين: يحيى بن أحمد رحمه الله وله رحلة أخرى للقراءة في علوم القرآن على أبي رحمه الله تعالى إلى هجرة (الوعلية) -وبينها وبين هجرتنا (الشجعة) قدر ميل- كانا يأخذان في أول الخريف في هجرتنا (الشجعة) مدة، ويأخذان في (الوعلية) مدة آخر الخريف، ولما تأخر والدي رحمه الله عن الطلوع إلى الوعلية لعذر منعه عن ذلك، كتب السيد رحمه الله إليه:
فعاد يحاكي في مطالعها الزهرا
على من تجلى في سماء العلا بدرا
وطيب بالسعي الحميد لها نشرا
بإظهاره بعد الخمول لها ذكرا
غدا عاطلاً من حلي أوصافه درا
غرائب منها طال ما أودعت قبرا
مهدمة الأرجاء موحشة قفرا
وبذل القرى لطالب العلم والإقرا
على سائر الأعصار يزهو به فخرا
عليه غدا وقت الضحى يحسد العصرا[80أ]
شرحت بوصلٍ من محبٍ لك الصدرا
تواصله يوماً وتهجره شهرا
من البر حلو مشرباً للجفا مرا
لقطعك وصلي حالنا واصلاً والرا
وروداً ولا أضمرت بعد الصفا غدرا
لودك لا تنفك آياته تقرا
لأعلم أن الحوض لا يعدل البحرا
لما كنت أرضى أن أفارقكم شبرا
أريد ولا أستطيع أن أغلب الدهرا
تضوعت الآفاق من نشرها عطرا
تنوَّع فيه من مذاهب للقرا
بها أسمع السبع المقاري أوالعشرا
لمول بما أوليتنيه لك الشكرا
رفعت به ممن وصفت به قدرا
وسيرت في وصفي بإتقانها شعرا
مجرد دعوى حين يقتلني خبرا
بمشكور سعي منك يعقبك الأجرا
به الفخر في الدنيا مع الفوزفي الأخرى(1/316)