بإيماء الشارع ونصه في جزئيات الصور التي تقدم شيء منها، فالسبر أمر نازل عن التنقيح معدود من أدنى مراتب الثلاثة كما ذكرناه؛ وبهذا يعرف أنه لا تنقيح ولا تخريج.
أما التنقيح فلما مر، وأما التخريج فاستعمال إحدى طرقه وهو السبر مثلاً إنما يكون لو فرضنا أوصافاً كثيرة محصورة تصلح عللاً، بعد تحقق أنه لا علة منصوصة للشارع أو مومأ إليها، فيفرض مثلاً أن الخبيث واحد منها غير متعين للعلية فنسبرها، وثبت أحدها إما الخبث أو غيره[76أ]فأين هذا من ذاك. وبما سبق تعرف عدم صدق التنقيح على ما ذكره السيد رعاه الله.
وأما أن هذا ليس من تحقيق المناط بالمعنى الذي عرفته، وهو البرهنة على وجود العلة في الفرع بعد ثبوتها في نفسها في أصل معين، كما نقله السيد عن شرح الغاية من التمثيل بالخمر والنبيذ؛ فظهوره بحيث لا يخفى على مثل السيد، وقد عرفت الفرق بين ما لو قال الشارع حرمت الخمرة لإسكاره، وبين ما لو قال حرمت المسكر من منع إفادة الصيغة في الأول للعموم عندنا، بخلاف الثاني فيعم بالصيغة كما علم.
فإن أراد السيد بقوله: (واستعمل المستدل تحقيق المناط…إلخ) بيان ماهية الخبث أو لا تم ثبوته في الصورة المذكورة كما هو صريح كلامه، فأين هذا من تحقيق المناط الذي عرفت معناه، وأين التنقيح والتحقيق في أوصاف عينها الشارع، وأومأ إليها، واعتبرها في صورها التي ذكرنا شيئاً منها في ديباجة البحث.
وحاصل ما ذكرناه منع ما ذكره السيد أيده الله مسنداً بما لا يمكن دفعه، وكأنه أخذ من كلام شارح الغاية عليه السلام حيث قال بعد معرفتها في نفسها: (إن معرفة العلة في نفسها كافٍ ولو ذكرت متجردة عن متعلق لها محرم لأجلها) وليس كذلك، بل مراده ما صرح به في المثال المذكور أولاً على أن قوله بعد تعيينها في نفسها، منافٍ لكلام السيد الذي بنى عليه البحث؛ لأنها عنده غير متعينة بنفسها، بل بتعيينه الذي قال: إنه تنقيح للمناط وتحقيق له.(1/307)


والحاصل مما ذكرناه: أن الشارع ذكر وصفاً عاماً علق عليه الحكم وهو التحريم، شاملاً لأفراد ما وجد فيه معنى من معاني الخبث التي عرفت باستقراء محالها في كلام الله ورسوله، فأينما وجدت تلك المعاني الخبيثة وجد الحكم وهو التحريم، في غير ما خصه دليل إباحة أو غيرها؛ ووجود هذه المعاني الداخلة تحت لفظ الخبائث يدركها الناظر في آحاد صور العموم، من غير حاجة إلى تنقيح أو تحقيق[76ب]لأنا إذا وجدنا هذا الشيء ضاراً ومستقذراً، أو ذا رائحة كريهة، أو مستخبثا في ذاته أو حكماً، أو مجموعاً فيه ما ذكر ولم نجد الشارع قد خصه عن حكم التحريم بدليل آخر، حكمنا بتحريمه كما في هذه الصورة التي وقع البحث لأجلها؛ وبما ذكرناه أولاً تعرف اعتبار الشارع لكراهة الرائحة، وأنه وصف غير طردي كما ذكره السيد، على أنا إذا أدخلنا ما ذكر في رسم الضار، أما خبيث الرائحة فلتضرر المسلمين والملائكة به، وما تضرر به فهو ضار، وأما نحو الخمر فلما علم من أضراره بالعقل والبدن.
وأما الدم والميتة وما أهل به لغير الله؛ فلما ذكرناه في المستقذر، وأما سائرها كالربا والزنا وسائر المعاصي؛ فلإضرارها بالدين الذي يَؤول إلى العذاب الذي هو أعظم ضرراً على النفس؛ اتضح لك أنه لا وجه لتنقيح ولا تحقيق ولا سبر، وبذلك يرتفع الخلاف، ويحصل الوفاق، ويحمد مسراك في رياض التحقيق حين يبدو لك صبح الاتفاق، ويثمر في يديك غصن الأجر المتسبب عن ذلك الاتفاق، والحمد لله وصلاته على محمد وآله الذي أسري به على البراق، إلى السبع الطباق، ففاز من شرف المكانة بما حس عبده الطباق، وصلوات وسلاماً أينع ثمر أغصانهما وراق، ونفحت نسمات حدائق صفاتهما في الأوراق.(1/308)


فورد من السيد العلامة يحيى بن إبراهيم -أبقاه الله- ما لفظه: لسيدنا القاضي الفاضل، العلامة العامل، مفيد التحقيق، ومظهر النظر الدقيق، شرف الدين: الحسين بن الناصر بن عبد الحفيظ -حفظه الله- وأهدى إليه سلامه وإكرامه، ومنحه فضله وإنعامه، وبعد ..
فإنه وصل إليّ كتابه الكريم صحبة السيد: عبد الرحمن، فجزاه الله عما أسدى، وكافأه عما أبدى، وكذلك المذاكرة المحققة، والمقالة المنمقة، فجزاه الله بما أفاد، وما أبدى وما أعاد، ولم يتسع الوقت للإجابة عليها.
ونظرت فلم أجد الاختلاف بيننا وبينه في أمر[77أ]يقتضي كثرة المراجعة؛ فقد اتفقنا على إثبات الحكم في المبحوث عن حكمه، وعلى أن حكمه مأخوذ من النص لعمومه، وبقي النظر في أن مناط الحكم هل هو مطلق الخبيث على اختلاف مفهومه كما ذهب إليه، فيكون عموم الخبائث من باب عموم المشترك على ما يلمح إليه كلامك، أو من باب عموم إذا كان بعض تلك المعاني حقيقة وبعضها مجازاً، وكلا العمومين مجاز على الصحيح يحتاج إلى القرينة وهي هنا مفقودة، أو هو واحد مخصوص من معاني الخبث يحتاج في تمييزه عما يلتبس به إلى استعمال تنقيح المناط، فإذا تميز حكم بعموم لفظ الخبائث لمحال وجوده، ويكون العموم حينئذٍ حقيقياً؛ وهذا الذي نذهب نحن إليه، والاختلاف في هذا لا يقتضي اختلافاً في حكم شرعي؛ وأنت إذا حققت النظر عرفت حقيقة ما أوردناه وصحته، ومن الله أستمد التوفيق والهداية إلى أوضح طريق. انتهى كلام السيد أيده الله.(1/309)


وأقول حامد اً لله ومصلياً على محمد وآله، ومسلماً: الاشتراك على شيوع الخلاف فيه يكون بين ضدين، وهما من الأوصاف ما يرتفعان عن المحل ولا يجتمعان فيه، كحون للسواد والبياض، وبين نقيضين وهما ما لا يجتمعان أيضاً ولا يرتفعان، كقرء للطهر والحيض، ومختلفين وهما ما تغابرت ماهيتهما، ويجوز اجتماعهما كما في هذا البحث المسوق له الكلام، ويمثلان بالسيد للمالك والرئيس، وبالمولى في حديث: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)). وقد لا يجتمعان، كالعين للجارحة والجارية.(1/310)


إذا عرفت هذا فاعلم أن الصحيح عند أئمتنا، والشافعي، وجمهور المعتزلة، والقاضي جعفر، والشيخ الحسن، وذهب إليه صاحب (الفصول) وغيره من أصحابنا المتأخرين كالإمام القاسم بن محمد وولده الحسين بن القاسم عليهما السلام وغيرهما صحة إطلاق المشترك حقيقة على كل معانيه التي يصح الجمع بينها؛ لظهوره في كلها، وأنه لا يحمل على أحدها خاصة إلا بقرينة، وهذا معنى عمومه[77ب]فالعام على هذا قسمان: متفق الحقيقة ومختلفها، فنقول: رأيت العين للجارية والجارحة، والنسبة حينئذٍ متعلقة بكل واحد منها حقيقة، وإنما ذهب أئمتنا والجمهور إلى ذلك لما ذكر، ولما علم من وضعه لكل واحد منها مجرداً عن تقييده بكونه مجامعا للآخر أو منفرداً عنه، فاستعماله مع العموم استعمال فيما وضع له؛ إذ وضعه لكل من المعنيين أو المعاني، لا بشرط الانفراد ولا بشرط الاجتماع، كما في الماهية لا بشرط شيء، وما ذكرناه معنى الحقيقة، فقول السيد أيده الله وكلا العمومين مجاز على الصحيح مبني على ما يختاره المخالف، وعلى الأول ورد قوله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ?[الأحزاب:56] لاشتراك الصلاة بين المغفرة من الله والاستغفار من الملائكة، وهي مسندة إلى الله وملائكته؛ والحذف الذي يقدره المخالف خلاف الأصل، وقول المخالف: إنها مستعملة في الاعتناء بإظهار الشرف المشترك بين المغفرة والاستغفار مردود أيضاً، بأن الأصل في الاستعمال الحقيقة، ولا يصار إلى غيرها إلا بدليل.
ثم إن قول السيد أدام الله وجوده: أو هو واحد مخصوص من معاني الخبث يحتاج في تمييز ه عما يلتبس به إلى استعمال تنقيح المناط محل استفسار، بأن يقال: ما أردت بقولك أنه واحد مخصوص من معاني الخبث إن أردت شمول الخبث لمعانيه المختلفة التي يدل عليها اللفظ فهو الذي نقوله، والمجاز لازم لك أيضاً فيه على ما يقوله المخالف.(1/311)

62 / 95
ع
En
A+
A-