ولما انتهى ما سبق من البحث الذي حررناه إلى السيد العلامة: يحيى بن إبراهيم - أحسن الله إليه - قال: المستدل قد استعمل في استدلاله تنقيح المناط وتحقيق المناط؛ فالتنقيح في تبيين الوصف المعتبر في التحريم وغيره عن غير المعتبر، ولا ينافي ذلك أن الحكم -وهو التحريم- مستفاد من عموم اللفظ؛ لمحال الوصف المعتبر مناطاً، ولأن الوصفين المعتبر والملغي داخلان تحت لفظ بالاشتراك اللفظي، وإن هما غيران اعتبر أحدهما وألغي الآخر، واستعمل تحقيق المناط لبيان أن الوصف المعتبر موجود في الصورة المستدل على ثبوت الحكم[74أ] فيها بالنص.
قال في (شرح الغاية): (ولما انجر الكلام إلى ذكر المناط وهو العلة توجهت الإشارة إلى أنواع النظر والاجتهاد فيه، فنقول: لما كانت العلة هي متعلق الحكم ومناطه والنظر ما في تحقيق المناط وتنقيحه أو تخريجه.
أما الأول فهو النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها، سواء عرفت بالنص أو بالإجماع أو بالاستنباط، فيكون النظر في كون النبيذ ذا شدة مطربة المظنون بالاجتهاد وتحقيق المناط، ولا يعرف خلافٌ في صحة الاحتجاج به إذا كانت العلة فيه معلومة بالنص والإجماع؛ وإنما الخلاف إذا كان مدرك حكمتها الاستنباط.
وأما تنقيح المناط فهو النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين، وإما لخصوصية ذلك الوصف المنصوص، كما في حديث الأعرابي؛ لكونه ظهر بالاجتهاد أن خصوص ذلك الوصف لا يصلح للعلية، فتعين أن يكون المناط ما فيه من العموم وهو إفساد الصوم.
وأما لذات الوصف بأن يدل ظاهره على التعليل لمجموع أوصاف فيحذف بعضها عن درجة الإعتبار؛ إما لأنه طردي، وإما لثبوت الحكم من دونه ويناط بالباقي، وكل ذلك بالاجتهاد والرأي وما يساعد عليه من الأدلة؛ وهذا النوع دون الأول، وإن أقرَّ به أكثر منكري القياس…إلخ، وبهذا القدر يتعلق الغرض.(1/302)


إذا عرفت ذلك ظهر لك أن المستدل نقح الخبث الذي دل النص والإجماع على أنه علة التحريم، وأثبت أحد معنييه المشتركين في ألفاظه، ونفى الآخر بثبوت الحكم بدونه وبثبوته في بعض الصور دون الحكم.
وأما الاستقذار، فإن عنى به كراهة الرائحة فطردي لم يعتبره الشارع في صوره، وإن عنى به استخباث النفس له وعيافتها لأكله فهو داخل في المضار؛ إذ كلما كان بهذه الصفة ضار كله، ولذا تحرم كثير منه على من يعافه، دون من لا يعافه وظهر أن[74ب]المستدل حقق وجود علة التحريم بعد تنقيحها في الصورة التي قصد إلى إثبات الحكم فيها. والله أعلم بالصواب). انتهى كلام السيد أيده الله .
وأقول بعد الصلاة والسلام على محمد وعلى آله:
اعلم أن الخبيث يقال بالاشتراك على معانٍ كثيرة اعتبرها الشارع، وعينها في أفراد ما حصلت فيه كراهة وحظراً، منها خبث الرائحة لحديث مسلم: ((من أكل من هذه الشجرة الخبيثة)) وفي أخرى: ((من هذه البقلة فلا يقربنا ولا يصل معنا)) وفي أخرى: ((من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن المساجد)) والنهي هنا لما يصحب أكلها من خبث الرائحة التي يتأذى بها المسلمون والملائكة، وكالمساجد مجامع العلم والذكر، والنهي للكراهة أو للتحريم باعتبار حصول الإيذاء أو عدمه، ولولا الدليل على إباحة ذلك مع تصريح الحديث المتقدم بخبثه لكراهة رائحته التي اعتبرها الشارع هنا لأدخلناه في عموم الخبائث المحرمة؛ لملازمة خبث الرائحة له كما ذهب إليه الظاهرية، ومن قال إن الجماعة فرض عين من تحريمه، لمنعه عن الجماعة التي هي فرض عين عندهم، ويرده قوله: ((فإني أناجي من لا تناجي)) ونحوه من الأحاديث الدالة على إباحته وإباحة الشارع أكله لمن لم يغش المساجد ومجامع الذكر، واغتفر ما فيه من الرائحة الكريهة كما أشار إليه السيد عماد الإسلام قدس الله روحه في قوله:
(وتلك تعفى الضيق الأمر فامتحن)
وأشرنا إليه في قولنا:(1/303)


بنص ما جاء من آي ومن سنن

والثوم لم يك منها لا ولا بصل

والحاصل: أنه في مقام النهي عنه خبيث قطعاً، فيكون الحكم بخبثه مقيداً بذلك؛ فإذا انتفى القيد عاد إلى الإباحة وامتحى عنه الخبث للدليل، لا يقال فكذا تكون هذه الشجرة الخبيثة التي وقع البحث لأجلها؛ لأنا نقول: الخبث الموجود في هذه الشجرة متعدد ملازم لها مطلقاً مع مفاسد أخر ملازمة لها، ولم يرد دليل بإباحتها في حال، وكذا سائر الخبائث التي لم يقم دليل[75أ]بإباحتها.
وفي قوله: ((ولا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا)).
وقوله: ((فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به الناس)) كراهة أكله لمن يدخل المسجد ولو خالياً؛ لأنه محل الملائكة، ولعموم الأحاديث .(1/304)


ومن معاني: هذا المشترك الرداءة، فإنه يطلق على الرديء من كل شيء، كقوله تعالى: ?وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ?[البقرة:267] ويطلق أيضا على من خرج عن منهج الحق والتقوى، كما في قوله تعالى: ?الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ?[النور:26] وكما في حديث: ((أعوذ بك من الخبث والخبائث)) وعلى الحرام والعمل السيئ، والمذهب الفاسد ونحو ذلك، كما فسر به قوله تعالى: ?قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ?[المائدة:100] وعلى ما يستخبث لذاته أو حكماً، كما صرح به جار الله في تفسير: ?وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ?[الأعراف:157] حيث قال: (ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير ?وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ?[البقرة:173]) يريد أن هذه أشياء مستخبثة مستقذرة. قال: وما خبث في الحكم كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة. وكحديث: ((القنفذ خبيث من الخبائث)) ويطلق أيضاً على الأرض التي لا تنبت كما في قوله تعالى: ?وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا?[الأعراف:58] ولذا امتنع التيمم به عند أصحابنا، وعلى الماء المتغير كما أشار إليه حديث: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا)) فالمفهوم قاضٍ بحمل ما دون القلتين للخبث غالباً؛ وحامل الخبيث خبيث، وعلى الكلمة السيئة والشجرة التي لا نفع فيها، كما في قوله تعالى: ?وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ?[إبراهيم:26] وعلى معانٍ أخر أضربنا عن ذكرها لشهرتها.
إذا عرفت هذا عرفت أن الآية عامة لتحريم كل خبيث إلا ما خصه دليل، وأن البحث عن معنى الخبث ما هو ليس من تنقيح المناط في شيء:(1/305)


أما أولاً: فلأن الشارع أومأ إلى العلة في التحريم بتعليقه على الخبائث المذكورة المعينة في الصور التي ذكرنا بعضها، بالنظر في تخصيص كلٍ من معانيها بصورة ما ليس تنقيحاً؛ لأن شمول الخبث لمعانيه التي منها خبث الرائحة، والاستقذار، ورداءة الجنس، وكونه محرماً، ومستخبثاً في ذاته أو حكماً أو نحو ذلك[75ب] مما يحتمله معنى الخبث، كالصورة التي وقع البحث لأجلها، ونحوها متعين فيما نحن فيه ولا تنافٍ بينها؛ فحمل الخبث على الضار مع وجود سائر معانيه فيه من بين سائرها لا محوج إليه في إجراء حكم التحريم عليه، والعلة هنا متعينة وهي الخبث المشتمل على معانٍ، أومأ الشارع إلى عليتها في بعض الصور، ونص عليها في أخر؛ فأين التنقيح فيما هو متعين بنفسه، وإنما كان للتنقيح جهة في المسألة لو كانت الخبائث أسماء لمحرم معين، لم يقصد بتعليق الحكم عليها الإيماء إلى كونها علة، كما في الخمر مثلاً فإنه اسم لمحرم معين يحتاج في ثبوت وجه تحريمه إلى إحدى الطرق المعينة للعلية ليلحق به غيره، فيحتاج في إثباتها في الفرع إلى تنقيح المناط وغيره؛ أما والخبث هو العلة في تحريم ما وجدت فيه معانيه الغير المتنافية أو بعضها، فلا تنقيح، ولسنا نريد المجموع هو المناط المتعلق بالإثبات والنفي، بل المراد أن كل واحدٍ يصلح أن يكون مناطاً للحكم، ومتعلقاً للإثبات والنفي، والفرق بين الجميع والمجموع، كالفرق بين الكل الإفرادي والكل المجموعي، ولا مانع من حصول هذه الأوصاف هنا متعددة لجواز تعدد العلل؛ وإنما قلنا في المذاكرة الأولى أن أوصاف التنقيح مذكورة في منطوق اللفظ لا في مفهومه؛ إشارة منا إلى الفرق بين السبر الذي هو من تخريج المناط المحكوم عليه بأنه أدنى الثلاثة، وبين التنقيح الذي هو أوسطها؛ فإنا لو طلبنا أوصافاً غير مذكورة وسبرناها بعد حصرها وأثبتنا بعضها للعلية بالطريق السابرة كما فعله السيد -أبقاه الله- على تقدير أن العلة حاصلة بما ذكر، لا(1/306)

61 / 95
ع
En
A+
A-