وقد فرقوا بين تحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه بأن الأول تحقيق العلة المتفق عليها في غير محل النص الذي وجدت فيه، أي إقامة الدليل على وجودها في الفرع، كما إذا اتفقا على أن العلة في الربا هي القوت، ثم تختلفان في التبن بكسر الفوقية وسكون الموحدة هل هو مقيات حتى يجري فيه الربا أولاً، وبأن تنقيح المناط إلغاء الفارق، كأن يقول الشافعي للحنفي: لا فارق بين القتل بالمثقل والمحدد إلا كونه محدداً، وكونه محدداً لا مدخل له في العلية؛ لكون المقصود من القصاص هو حفظ النفوس، فيكون القتل هو العلة، وقد وجد في المثقل فيجب فيه القصاص، والحنفية يسمون هذا النوع بالاستدلال، وبأن تخريج المناط استخراج علة معينة للحكم ببعض الطرق كالمناسبة، وذلك كاستخراج الطعم والقوت والكيل بالنسبة إلى تحريم الربا.
إذا عرفت هذا فاعلم أن مناط التحريم في جزئيات عموم ?وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ? هو الخبث المومئ إلى كونه علة، فلعل مراد السيد أيده الله بقوله: لأسلك فيه أقوى طرق الاستدلال وهو تحقيق المناط …إلخ هو تعيين أحد معنيي هذا المناط المشترك بعد حصولها ثم سبرها، لا تحقيق المناط المعبر عنه عند الأصوليين بما سبق.
أما أن هذه المسألة التي وقع البحث فيها من باب آخر غير تحقيق المناط[70أ] فلأن التحريم في الآية ورد عاماً لكل خبيث، من غير تخصيص له بصورة معينة حتى يلحق بها غيرها بتحقيق مناط أو غيره، وقد علم أن من شروط العلة أن لا يشمل دليلها حكم الفرع بحيث لا يكون الدليل الدال عليها مساوياً لحكم الفرع بعمومٍ أو خصوصٍ؛ للاستغناء بشمول العموم عن المقياس، كحديث مسلم: ((الطعام بالطعام مثلاً بمثل)) فإنه دال على علية الطعم، فلا حاجة في إثبات ربوية الذرة مثلاً إلى قياسها على البر بجامع الطعم للاستغناء عنه بشمول الحديث، ووجود هذه العلة في الذرة ونحوها من سائر المطعومات الربوية لا يكون من تحقيق المناط بالمعنى الذي مر أولاً.(1/292)
وقد أشرنا في كلامنا الذي أيدنا به كلام عماد الإسلام: يحيى بن أحمد إلى أن عموم الخبائث باقٍ لا يصح تخصيصه بشيءٍ حتى يلزم على قول البعض عدم بقاء حجيته في أكثر من أقل الجمع، فيعسر إدراج الفرع فيه فيحتاج إلى إثبات العلة به في الجملة، ثم يعمم بها الحكم في جميع موارد وجوبها، على أن الصحيح بقاء حجية العموم المخصوص فيما بقي كما حققناه في الأصول، ففي هذه المسألة يحكم بتحريم ما وجدنا فيه الخبيث من جزئيات العموم بحكم الآية الكريمة؛ لدخوله تحت ا لعموم المذكور، بخلاف مسألة تحقيق المناط فإنا نجد المنصوص على تحريمه مثلاً جزئيا معينا نحو: الخمر، فإذا علمنا بأي المسالك أن مناط تحريمه هو الشدة المطربة كان النظر في كون النبيذ ذا شدة مطربة بالطريق المذكورة تحقيقاً للمناط الذي ربط به الحكم المذكور، وليس النظر في أحد معنيي المشترك في هذا البحث الذي أورده السيد -أيده الله- من باب تنقيح المناط الذي عرفت معناه؛ لأنه وإن كان فيه حذف بعض الأوصاف والتعليل بالباقي، ففرق بين الأمرين بأن الأوصاف في[70ب]مسألة تنقيح المناط مذكورة بمنطوق اللفظ في مسألة معينة، كحديث الأعرابي ونحوه مما ضرب مثالاً له بخلاف ما نحن فيه، فالمحرم في الحقيقة كل شيء وجد فيه معنى الخبث من غير تخصيص له بشيء معين؛ وهذه الأوصاف الدال عليها لفظ الخبث بالاشتراك إنما يوجد في مفهوم اللفظ لا في منطوقه، هذا بالنظر إلى الأولى من صورتي تنقيح المناط، وأما بالنظر إلى الثانية فالأمر ظاهر.(1/293)
وأما: أنه ليس من باب تخريج المناط، فالأمر أظهر، فتعين أن يكون مراد السيد ما أشرنا إليه أولاً من تعين أحد معنيي المشترك؛ فإنا إذا قلنا بتعدد مفهوم الخبث، وكان المقصود منه عند استعماله غيره في المعنى الآخر كما نفهمه كلامه، فحمله هذا على أحد المعنيين وهو الضر دون المعنى الآخر وهو الاستقذار متعين؛ للقرينة وهي وجود ما تنفر عنه النفس مع ثبوت تحليله إجماعاً كالأدوية المذكورة ونحوها، كما قلنا في معنى الطيب المقول بالاشتراك على النافع وعلى المستلذ، فإن حمله على النافع متعين أيضاً للقرنية وهي وجود شيء من جزيئا ت ا لمستلذ محرماً كالخمر والخنزير؛ وبهذا يعرف أن مناط التحريم هو الخبث المشترك بين الضار والمستقذر، وأن المقام معين لأحدهما بالقرينة، وأن مراد السيد بسلوك أقوى طرق الاستدلال وهو تحقيق المناط ما ذكر، وقد انتظم ما ذكرناه قياساً من الشكل الأول وهو ضروري الإنتاج، صورته هكذا: (التتن) خبيث ضار، وكل خبيث ضار محرم، فالتتن محرم.
أما الصغرى فلما تقرر من خبثه وأضراره في الدين؛ لما علم من امتحاء أثر التقوى والمروءة للدين، وهما ركنا العدالة التي لا تبنى إلا عليهما به، ولإضراره بالعقل، فإن شاربه[71أ] أقل الناس عقلاً لما أشار إليه السيد من ميله إلى ما أذهب عدالته، وأسقط مروءته، ولما انطبع في قلبه من الرضا بسفساف الأمور وكراهته معاليها، فأحب ما كره الله، وكره ما أحب الله؛ وهذا غاية في نقصان العقل؛ إذ لا يرتضيه ذو عقل وافر ودين، ولإضراره بالبدن كما أشار إليه السيد أيضاً، ولإضراره بالمال بإنفاقه فيه، مع العلم بأنه مجرد ضرر لا نفع فيه.(1/294)
وهذا بالنظر إلا أن أحد معنيي المشترك متعين، أما إذا حملناه على جميع معانيه لعدم تنافيها على ما ذهب إليه البعض فهو ظاهر أيضاً، لنفرة من يعتد به عنه، وكراهته له، وخروج بعض الأدوية المهوعة لدليل يخصها للفرق بين المستقذر الضار كالتتن، والمستقذر النافع كالأدوية المرة ونحوها، وكذا الكلام في الطيب إن حملناه على جميع معانيه؛ لخروج نحو الخمر والخنزير بأدلة تخصها.
وأما كلية الكبرى فللآية الكريمة وهي قوله تعالى: ?وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ?[الأعراف:157] فتم لنا الدليل على تحريمه بالطريق البرهاني، وإنما عدلنا إلى إثبات تحريمه بالقياس الاقتراني؛ لأن كلية الكبرى لما كانت مسلمة لم يبق للقياس التمثيلي الذي يحتاج فيه إلى الإلحاق بالعلة وجه في الاعتبار؛ لأن الحرمة قد ثبتت بالعموم، وقد سبق أن من شرطه أن لا يكون حكم الأصل شاملاً لحكم الفرع.(1/295)
وهاهنا فائدة ينبغي معرفتها وهي: أن القياس مقول بالاشتراك على معنيين: أحدهما: إلحاق أمرٍ لا نص على حكمه بآخر منصوص عليه فيه؛ لاشتراكهما في معنى بطن علة الحكم، وقولنا: بطن احتراز عما يعلم بالنص كونه علة، فإن إلحاق الآخر به ليس قياساً بل تعميماً، والثاني قول مؤلف[71ب]من قضايا يلزم عنه قول آخر، والأول مسمى القياس عند أئمة الأصول، والثاني مسماه عند أئمة المعقول، ويسمون الأول تمثيلاً، وهذان القياسان متباينان بحيث لا ينتظم التمثيلي اقترابياً، فإنه متى قيل في هذه المسألة أو غيرها: هذا خبيث ضار، وكل خبيث ضار محرم، فإن سلمت كلية الكبرى بطل التمثيل؛ لأن الحرمة قد ثبتت لعموم الخبيث، فلا حاجة إلى التمثيلي؛ لأن شرطه ما سبق من عدم شمول حكم الأصل لحكم الفرع، وإن منعت كلية الكبرى لم ينتظم فيه الاقتراني؛ لأن شرطه كلية الكبرى لما أن ثلثه الأشكال كلها لا تنتج إلا بملاحظة ردها إلى الأول، وكثيراً ما يلتبس أحد القياسين بالآخر؛ لأن الوسط في الاقتراني هو العلة، وقد يتخذ في القياسين في بعض المواد.
واعلم أن مراد السيد أيده الله بقوله: وحرمت الخمر والمسكر وكلما أضر بالعقل بالإجماع العام في الخمر، وهي الشراب المتخذ من عصير العنب إذا اشتدت وغلى ورمى بالزبد؛ للعلم بتحريمه ضرورة، وكفر مستحله، وفسق شاربه، والإجماع الخاص فيما عطف عليه، بخلاف ابن علية، وبشر المريسي وذهابهما إلى أن ما عدا الخمر المجمع عليه حلال، ولقول أبي حنيفة بتحليل ما يتخذ من العسل والذرة والسكر، وبتحليل ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه إذا لم يسكر ويقصد به اللهو، وما طبخ من العصير أدنى طبخ، وقول بشر بتحليل العصير إذا نصف وإن أسكر؛ والصحيح التحريم في ذلك كله لدلالته وللإجماع. ثم إن حديث: ((الحياء من الإيمان)) مروي بهذا اللفظ عند أئمتنا ومسلم والترمذي من حديث بن عمر وعند الطبراني من حديث غيره بلفظ ((الحياء هو الدين كله)).(1/296)