فأصبح للدين الحنيف مؤيداً
وفتح أقطار البلاد ممهداً
وما صده من مانعٍ دون قصده
يجود بنفس للجهاد كريمة
وقد سبق إليكم كتاب صحبة السيد: صلاح -رعاه الله- فيه كفاية، ولكن الحال[67ب] لما بلغ إلينا اقتضى التأكيد، فالبدار البدار بالارتحال، والسرعة السرعة قبل أن يقع -والعياذ بالله- الإخلال، ونسأل الله لنا ولكم الإعانة على ما فيه صلاح الأحوال، وتبليغ صالح الأعمال، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، والحمد الله رب العالمين، في ثلاث وعشرين شهر جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وألف )- انتهى. وناهيك بمن يقول فيه هذا الإمام العظيم مثل هذا، وكان يخاطبه بالخلافة، ففحوى كتابه تفيد ما ذكرناه.(1/287)
[بحث حول حكم التنباك (التتن)]
وهذا ما وقعت فيه المراجعة بيننا وبين السيد: يحيى بن إبراهيم أيده الله.
قال السيد أيده الله: يقول العبد المعتصم بالله فيما يقول ويفعل وما ينويه من الخطأ والخطل: يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن الهادي بن إبراهيم بن المهدي -ثبته الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة: إني لما وقفت على الرسالة الفائقة التي نظم أبياتها السيد الإمام العلامة: يحيى بن أحمد بن محمد -أطال الله بقاءه وجزاه أفضل ما جزى به أولياءه- وجدناه يشير إلى برهان تَحريم التتن إشارة يفهم المقصود منها أهل الفطن، ويستبهم على أكثر من يفقه من أهل هذا الزمن؛ لأن المنظوم من القول أضيق عبارة من المنثور، ووجدته في القصيدة قد أومأ إلى تعنيف من عنده علم بذلك على سكوته عن إنكار هذه البدعة التي عمت وطمت، وذهبت بدين المسلمين وببركة دنياهم، وأجحفت وحلقت مكارم أخلاق المؤمنين، فأسحتت وأظهرت الكذب على الصدق، والغدر على الوفاء، وخيانة الأمانة على الأداء، وكل شر مكان كل خير أبدلت؛ أردت أن أخرج نفسي من عموم قول الله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ[68أ] وَالْهُدَى?[البقرة:159] الآية بتوضيح البرهان الخفي حتى يصير –إن شاء الله- كالنير الجلي وبالله أستعين وبه أعتصم، وهو حسبي ونعم الوكيل، ولأسلك في ذلك أقوى طرق الاستدلال، وهو تحقيق المناط لثبوت هذه الطريق بالنص النبوي، والبيان العلوي، واعتماد قدماء أئمة أهل البيت عليهم السلام عليه.(1/288)
فأقول: قال الله عز وجل في وصف نبيه الله صلى الله عليه وآله وسلم : ?وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ?[الأعراف:157] دل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء بتحليل كل طيب، وتحريم كل مستخبث، فثبت أن الطيب متعلق بالتحليل، والخبيث متعلق بالتحريم، والطيب يقال على الشيء المستلذ، والخبيث على الضار لا يصح أن يراد في الآية بالخبيث والطيب معناهما الأولان؛ لأن الخمر ولحم الخنزير من لذيذ المأكول والمشروب، ولذلك شق تحريمهما على من ألفهما مع أنهما محرمان قطعاً؛ ولأن الأدوية الإجماع على تحليلها كريهة بشيعة كالإهليلج والسنا ونحوهما، فعلم أن ليس المناط الطيب بمعنى اللذة، والخبيث بمعنى البشاعة، وتعين أن المناط للتحليل الطيب بمعنى النفع، والخبيث بمعنى الضر، وأكده ووضحه الإجماع على تحريم كلما أضر وعلى أن حفظ النفس والعقل والدين واجب، فثبت تحريم ما أضر بواحد من الثلاثة، فمن ثم حرمت السموم القاتلة والضارة بالإجماع، وحرمت الخمر والمسكر وكلما أضر العقل بالإجماع، وحرم كلما نقص الدين بتعريف الشارع أنه ناقص كالمذكورات في قوله تعالى: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ…?إلخ الآيات[المائدة:3] وكأكل مال الناس بالباطل؛ لأنه ظلم والظلم ناقص للدين بالعقل والنص والإجماع، وقد صح أن الحياء من الإيمان بالنص الصحيح المشهور، وفي كلام علي [عليه السلام][68ب]: (ولا إيمان كالحياء والصبر) فإن المروءة أحد ركني العدالة التي هي التقوى ملاك الإيمان.(1/289)
وقد كشفت التجربة أن مدمن التتن لا حياء له ولا مروءة، ألا تراه منسوباً بالأصالة إلى رذال الناس وسقطهم كغوغاء الأسواق أهل المهر الدنيئة، والمتظاهرين بالأخلاق الرديئة، والمجانة والألفاظ البذيئة، وكسواس الخيل والحمير ونحوهم من المقبوية، أولا ترى أن من ولع به من أهل المناصب والبيوت الشريفة يشربه في خفية ويحاذر أن يظهر عليه أثره، وأن ينسب إليه عند من يستحي منه شربه والتعلق به، ما ذاك إلا لما تقرر في العقول من هجنة شربه، والتعلق به، فشربه مجحف بالمروءة التي عمادها الحياء، فإن حقيقتها ألا يعمل في السر بعمل يستحي منه في العلانية، فقد نقص الدين بإذهابه الحياء والمروءة، أولا ترى أن الطائفة المشهورة بشربه وهم الغوغاء منسوب إليهم المجانة والبذاء والبطالة والغدر والكذب وخيانة الأمانة، وهو أيضاً مضر بالبدن؛ لإضراره بالصدر والرئة ومجاري النفس؛ ألا ترى أن مكثره لا يقدر على العدو، ولقد رأينا منهم من تركه لإضراره به وهو مضر بالعقل، ألا ترى أن المشتهرين به يختارون الرذائل على الفضائل، وصحابة الأوغاد على مقاربة الأمجاد، فهذا كما ذكر العلماء أن شرب الخمر يدل على فسق باطن ما ذاك الأصيل طبعهم إلى الشر وبعدهم عن الخير، وهو أيضاً مضر بالمال بما أشار إليه الناظم من أنه يضر ولا ينفع، ومن شرى ما لا يضره ولا ينفعه فهو من المبذرين إخوان الشياطين، ولا ينقدح في قلبك شك لتتابع الناس في هذا الشر، وإمساك العلماء عن إنكار هذا المنكر، فلقد تظاهر الناس بشرب الخمر في زمن بني أمية وبني العباس[69أ] وإتيان الذكور في زمن بني العباس، واعتبروا الظرف والأدب بحسن وصف هاتين الفاحشتين، ونقل العلماء الأقوال المحيرة في هاتين المعصيتين، ومدحوا من أجاد في وصفهما، وأبانوا ترجيحه على المقصرين في ذكرهما فضلاً عن أمرائهم، فإنهم أعطوهم على ذلك أموال الله، وآثروهم على المؤمنين بحق الله، فلم يزل الحق وأهله قليلين، مستهدفاً بأقوالهما(1/290)
مزدرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم قال السيد العلامة: إسماعيل بن إبراهيم -عافاه الله- ما لفظه: وعلى سيدي عماد الدين أفضل السلام؛ اطلعت على هذا التحقيق الأنيق، وإظهار هذا الحق الجليل الدقيق، فجزاكم الله أفضل الجزاء، وهذا والله في الغاية من الوضوح ولا تمجه الأسماع، ولا تأباه الطباع، فينبغي كتب ورقة بهذا إلى الصنو السيد: يحيى بن أحمد عافاه الله تعالى وهذه ينبغي نقلها.
وأما الإنكار فهو متعين على كل من ظن التأثير أو من له شوكة، والله المستعان، والله يعينكم، ويبارك لنا وللمسلمين فيكم والسلام، انتهى. ولما انتهى هذا إلى الفقير إلى الله الحسين بن ناصر بن عبد الحفيظ -عفى الله عنه وعنهم- أردت إيضاح ما عسى أن يشكل من عبارة السيد -طول الله عمره- في هذا البحث الشريف، وإيضاح البرهان على ما أراد في كلامه اللطيف، مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، ومصلياً ومسلماً على سيد الأنبياء محمد وآله الهادين فأقول: الذي يظهر بالنظر أن العلة في: ?وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ?[الأعراف:157] من باب التنبيه والإيماء لتعليق الحكم على الوصف وهو مشعر بالعلية، وأن الخبيث دال بنفس الوضع على ما سبق البحث لأجله من تحريم هذه الشجرة التي تتابع[69ب] خلائق في نارها، وذهبت عنهم كل خلة تحمد، فلم يبق عليهم شيء من آثارها، والعموم دال بكليته على تحريمها لعدم انحصار الخبائث في شيء معين حتى يحتاج إلى إلحاق ما خرج عنها بتحقيق مناط أو غيره، وقد علم أن المناط، اسم لمكان الإناطة، ولما ربط الحكم بالعلة وعلق عليها سميت مناطاً كما قال أبو تمام:
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها(1/291)