[سبب الإبتداء بالضمائر المرفوعة]
وأما سبب الابتداء في الضمائر بالمرفوع فاعلم أن أول ما يبدي بوضعه من الأنواع الخمسة ضمير المرفوع المتصل؛ لأن المرفوع مقدم على غيره، والمتصل مقدم على المنفصل؛ لأنه أخصر، وضموا التاء في المتكلم لمناسبة الضمة لحركة الفاعل، وخصوا المتكلم بها؛ لأن القياس وضع المتكلم أولا، ثم المخاطب[60ب] ثم الغائب، وفتحوا المخاطب فرقاً بين المتكلم وبينه وتخفيفاً، وكسروا المخاطبة فرقاً، ولم يعكسوا الأمر بكسرها للمخاطب؛ لأن خطاب المذكر أكثر فالتخفيف به أولى، ولأنه متقدم على المؤنث فخص للفرق بالتخفيف، فلم يبق للمؤنث إلا الكسر رعاية للمصلحتين وهما: التخفيف والفرق في المذكر المقدم على المؤنث، والكلام في المثنى والمجموع مبسوط في مواضعه.
ولما فرغوا من وضع الضمير المتصل بالأفعال والصفات أخذوا في وضع الضمير المرفوع المنفصل فقالوا: أنا للمتكلم المذكر والمؤنث، وهو عند البصريين همزة ونون مفتوحة والألف يؤتى به بعد النون في حالة الوقف لبيان الفتح؛ لأنه لولا الألف لسقطت الفتحة للوقف فكان يشتبه بأن الحرفية لسكون نونها؛ فلهذا يكتب بالألف؛ لأن الخط مبني على الوقف والابتداء، وجاء في قراءة الرفع إثبات الألف إذا كان قبلها همزة مفتوحة أو مضمومة مثال المفتوحة: أنا أعلم ومثال المضمومة: أنا أجيء ومثال المكسورة: أنا إليك.
قال أبو علي: لا أعرف فرقاً بين الهمزة وغيرها؛ والأولى أن لا يثبت الألف وصلاً في موضع ونحن مثل: أنا للمتكلم مع غيره وضمه إما لكونه ضميراً مرفوعاً، وإما لدلالته على المجموع الذي حقه الواو.(1/267)
وأما أنت إلى أنتن فالضمير عند البصريين أن، وأصله أنا، وكأن أنا عندهم ضمير صالح لجميع المخاطبين والمتكلم فابتدؤوا للمتكلم، وكان القياس أن يثبتوه بالتاء المضمومة نحو: أنت إلا أن المتكلم لما كان أصلاً جعلوا ترك العلامة له علامة، وبينوا المخاطبين بتاء حرفية بعد أن كالاسمية في اللفظ وفي التصرف، وقال بعضهم: إن الضمير المرفوع هو التاء المتصرفة كانت منفصلة، فلما أرادوا انفصالها أدعموها بأن لتستقل لفظاً كما هو مذهب بعض الكوفيين وابن كيسان في إياك وأخواته[61أ] أن الكاف المتصرفة كانت متصلة، فأرادوا استقلالها لفظاً فجعلوا أيا عماداً لها، فالضمائر هي التي تلي أيا، وإيا عماد لها؛ قال الرضي: وما أرى هذا القول بعيداً من الصواب في الموضعين يعني في المرفوع المنفصل، والمنصوب المنفصل؛ ثم لما فرغوا من وضع المرفوع شرعوا في وضع المنصوب؛ لأنه فضلة والمرفوع عمدة فابتدؤوا بمتصل المنصوب، فوضعوا للمتكلم الياء إما مفتوحة أو ساكنة، وأنا للمتكلم مع غيره كما كان في متصل المرفوع، والكاف في المخاطب مثل التاء في التصرف، ولما أرادوا وضع المنصوب المتصل الغائب اختصروه من المرفوع المنفصل الغائب فحذفوا حركة الواو والياء من هو وهي، وقلبوا الياء من هي ألفاً فصار هاء، وتمام الكلام في موضعه، ثم لما فرغوا من وضع المنصوب المتصل أخذوا في وضع المنصوب المنفصل، فجاءوا بأيا متلوً بصيغة ضمير المنصوب المتصل، فاختلف فيه كما هو معروف، وقد قدمت لك ما استقر به الرضي من كلام ابن الكوفي وابن كيسان من البصريين، ثم حملوا ضمير المجرور على المنصوب؛ لأن المجرور مفعول به لكن بواسطة، وحملوه على لفظ المنصوب المتصل لوجوب كون المجرور متصلاً، فضمير المجرور كضمير المنصوب المتصل سواء.
قال الرضي عند قوله: ولا يسوغ المنفصل إلا لتعّذر المتصل بعد كلام طويل:(1/268)
الثالث: إذا فصل عن عامله لغرض لا يتم إلا بالفصل، وذلك في مواضع منها: أن يكون تابعاً إما تأكيداً نحو: ?اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ?[البقرة:35] ولقيتك إياك، أو بدلاً كقولك بعد ذكر أخيك: لقيت زيداً إياه، أو عطف نسق نحو: جاءني زيد وأنت؛ ثم قال: ومثله المضمر البارز في الصفة إذا جرت على غير من هي له، فإنه تأكيد للضمير المستكن فيها لا فاعلها كما في: ?اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ? وإنما ذكرت هذا ليعرف جزم الرضي في كل[61ب] موضع يكون إياك تأكيداً للضمير المنصوب في نفسك مكرراً لتمثيله في كل هذه المواضع، وكذلك ?اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ?، وقال في شرح قوله: متصل ومنفصل والضمائر المستترة نحو: زيد ضرب ويضرب –إلى قوله: وأنتم ضاربون ونحن ضاربون كلها متصلة كما يجيء، وليس المستتر ما يبرز في نحو: زيد ضرب هو وعمرو، و?اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ? لأن هذا البارز تأكيداً للفاعل لا فاعل، وهو منفصل، وكذا ما يبرز في نحو: هند زيد ضاربته هي منفصل بدليل قولهم: زيد ضرب اليوم هو وعمرو، واسكن اليوم أنت وزوجك الجنة، وهند زيد ضاربته اليوم هي بخلاف ذلك المستتر.
يجوز على التأكيد أو هو يبدل
بنسبته أوفي الذي هو يشمل
وتفصيل متبوع أتى وهو مجمل
لا وقع مما جاء وهو مفصل
ورفع مطرنا سهلنا وجبالنا
وفائدة التأكيد تقرير تابعٍ
وفائدة الإبدال تفسير مبهم
وذلك في نفس الذي هو سامع(1/269)
وقد مر شرح هذا، وقوله: وفي القسمة الأخرى في الأبيات المقدمة إشارة إلى كلام الرضي في قسمة البدل باعتبار الإضمار والإظهار، وفي المضمر من المضمر، وقد يقدم لفظ الزيدين وإخوتك بتقدير أن الزيدين هم إخوتك لقيتهم إياهما، والنحاة يوردون في هذا المقام: زيد ضربته إياه، وهو تأكيد لفظي لرجوعهما إلى شيء واحد، وقد اتفقوا كلهم في مثل: ?اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ? أن أنت تأكيد، وكذا: مررت بك أنت وبه هو؛ والمضمر من المظهر نحو: أخوك لقيت زيداً إياه بتقدير أن زيداً أخوك، ولو رجع إياه إلى زيد على ما يورده النحاة لكان تأكيداً لفظياً أيضاً؛ لأنه يكون كقولك رأيت زيداً زيداً.
سوى غلط مقصوده ليس يهمل[62أ]
به مبدل لغو ولكن يحصل
له صفة أو عكسه ليس يحمل
إلى الكل إذ متبوعه ليس يعقل
ويظهر من ذا أن الإبدال عنده
وليس كلام الله ثم رسوله
إلى ما ذكرناه اشتهار بتابع
ويعرف منه رد عطف ببائهم
قال الرضي: وأنا لم يظهر لي إلى الآن فرق جلي بين بدل الكل من الكل، وبين عطف البيان، بل لا أرى عطف البيان إلا البدل كما هو ظاهر كلام سيبويه، فإنه لم يذكر عطف البيان، بل قال: أما بدل المعرفة من النكرة فنحو: مررت برجل عبدالله، كأنه قيل: من مررت به أو ظن أنه يقال له ذلك فأبدل ما هو أعرف منه، ومثله قوله: ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ?[الشورى:52،53].(1/270)
نسأل الله الهداية إلى صراطه المستقيم، بحق محمد وآله، عليه وعلى آله أفضل الصلوات والتسليم. انتهى ما وجدته في المسودة التي بخط والدي قدس الله روحه، وقد كان أنهى نسخة منها بخطه في تاريخ تحريره لهذه إلى مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله: محمد بن أمير المؤمنين المتوكل على الله أيده الله وهو إذ ذاك في حضرة والده الإمام المتوكل على الله، ولعل النسخة التي عند الإمام أيده الله بخط والدي رحمه الله أكمل من هذه وفيها زيادات لم تكن في هذه؛ وإنما رقمت هذه هاهنا ليعلم الناظر مزيد اختصاصنا بأئمتنا الهداة سلام الله عليهم وقديم مالنا من مزيد القرب بهم الموجب لذلك، ولوالدي رحمه الله اجتماع بالإمام المتوكل على الله رضوان الله عليه واتصال مشهور أكثره وقت سماعهم للهدي النبوي على الإمام عليه السلام في (حبور) بقراءة السيد العلامة الزاهد العابد الشهير: إبراهيم بن يحيى بن الهادي بن جحاف رضوان الله عليه وكنت إذ ذاك في سن الحداثة مع أبي رحمه الله أحضر مجلس القراءة على الإمام في[62ب] أعيان السادة العلماء، والشيعة العظماء، كالسيدين الإمامين: (إسماعيل ويحيى ابني إبراهيم)، والقاضيين العلامتين: أحمد بن سعد الدين وأحمد بن صالح بن أبي الرجال، وجمع كثير من العلماء، وكانت تجري في المجلس مراجعات في علوم كثيرة، والزمان إذ ذاك في شبابه غض نضير طري، والأيام زاهرة بذلك الإمام الرضي، وكنت أرى إمام عصرنا المؤيد بالله أيده الله وهو يسمع القرآن على القاضي العلامة: أحمد بن سعد الدين رحمه الله تعالى غيباً في أوقات الانتظار للصلوات، ولم يزل الإمام المتوكل على الله رضوان الله عليه قائماً بأمور المسلمين آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مبالغاً في احترام النفوس والأموال، زاجراً للولاة والعمال عما يرتكبونه مما يخالف الشريعة، آمراً لهم بالوقوف عندها، ورفع رضوان الله عليه في أيامه كثيراً من المظالم المحدثة وذاق الناس في أيامه(1/271)