يجمع بين النفس والتأكيد بالضمير لاختلاف لفظيهما، فيقال: ضربته هو نفسه، وضربته إياه نفسه فيكون مثل قوله تعالى: ?فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ?[الحجر:30] ولا يقال عند سيبويه ضربته هو هو، ولا ضربته إياه؛ لاجتماع ضميرين بمعنى واحد، وأجازه الخليل مع اختلاف الضمير لفظاً، أعني نحو ضربته هو إياه لاختلاف اللفظين، ولم يُجَوّز سيبويه بناءً على ذلك ظننته هو إياه القائم، وإن جعلت أولهما فصلاً والثاني تأكيداً؛ لأن الفصل كالتأكيد في المعنى كما مر قال: فإن فصلت بين الفصل والتأكيد نحو أظنه[56أ] هو القائم إياه جاز لعدم الاجتماع.(1/257)
هذا: وقد عرفت الحالة المقتضية للتأكيد، وهي أن السامع ربما توهم في حكمك بالمسند على المسند إليه أنك تجوزت فيه، أي نسبت المسند إلى غير ما هو له بتأويل على طريق المجاز العقلي، أو سهوت عنه بأن غفلت عما هو لهن فذكرت غيره مكانه أو نسبته فوضعت غيره موضعه؛ والسهو ما ينبه له صاحبه بأدنى تنبيه؛ لأنه زوال الصورة عن المدركة فقط دون النسيان، فإنه زوالها عن المدركة والحافظة معاً، فيحتاج إلى تحصيلها ابتداء، فإن أردت دفع ذلك التوهم أكدت المسند إليه تأكيداً لفظياً، إما بإعادة لفظه بعينه نحو: عرف زيد زيد؛ وإما بذكر ما هو في حكم إعادته مثل: عرفت أنا؛ فيندفع توهمه للتجوز والسهو والنسيان، أو تأكيداً معنوي بلفظ معنوياً بلفظ النفس والعين، فيندفع به توهم التجوز دون السهو والنسيان؛ لاحتمال دفع أن يتوهم وقوع زيد نفسه موقع عمرو نفسه سهواً ونسياناً، وربما كان القصد بتأكيد المسند إليه التأكيد اللفظي والمعنوي مجرد تقريره، أي: تحقيق معناه في ذهن السامع، فإنك إذا قلت: جاءني زيد وتوهمت أن معنى زيداً لم يتقرر في ذهن السامع أكدته بإعادته لتقرره فيه ، وإنما قلنا مجرد التقرير تنبيهاً على أنما تقدم مشتمل على التقرير أيضاً، إلا أنه قصد به شيء آخر من دفع التجوز أو غيره، فإن التأكيد اللفظي ذكر للشيء مرتين، فتقييد تقريره قطعاً، ولفظ نفسه وعينه في قوة التكرير فلا يخلو من التكرير، وكذلك إذا قلت: سعيتُ أنا في حاجتك يفيد القصر وأن قولك: سعيتُ أنا في حاجتك يقصد به دفع احتمال التجوز والسهو والنسيان، فيعلم من ذلك أن تكرير المسند إليه في نحو: أنا عرفت. لا يفيد ذلك التوهم إنما يفيده تكريره على وجه التأكيد، فتكون إرادة دفعه مقتضية لتأكيد المسند إليه لا لتكريره، وكذلك إذا أردت[56ب] ألا يظن بك السامع في حكمك إرادة خلاف الشمول والإحاطة، فإن المسند إليه إذا كان عاماً أي ذا أجزاء يصح أن يقصد به بعضها جاز أن يتوهم السامع أنك قصدت(1/258)
بعضها، فلا يكون الحكم شاملاً محيطاً، فتؤكده بكل دفعاً للتجوز اللغوي كقولك: جاءني الرجال كلهم؛ وليس يندفع توهم السهو، أو النسيان، أو التجوز العقلي بجواز أن لا يتوهم أن الرجال كلهم وقع موقع الزيدون كلهم إما سهواً أو نسياناً، أو أن يتوهم أن المجيء منسوب إلى جميع الرجال المعهودين على طريقة المجاز العقلي، بأن يكون المجيء لعلمائهم كما يظهر ذلك في قولك: جاءني الأمراء كلهم، وأما جاءني الرجلان كلاهما فقد قيل: إنه لتقرير الشمول لا لدفع خلافه؛ إذ المثنى نص في مدلوله، ولا يجوز أن يقصد به بعضه، وقيل: لدفع خلاف الشمول في الحكم بناءً على أن الفعل الصادر من أحد المصاحبين مسنداً إليهما، قيل: نظيره ?يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ?[الرحمن:22] مع أن الخارج من المالح وحده، فيكون حينئذ لدفع التجوز العقلي دون اللغوي، ولهذا تتمة ليس هذا موضعها.
وأما البدل فيبدل حيث كان القصد فيه تكرير الحكم، والتقرير أمر زائد ففيه أمران:
أحدهما: تكرير الحكم به، وذلك لكون البدل في حكم تكرير العامل بناءً على أنه المقصود بالنسبة، فيتكرر العامل والانتساب، وأيضاً ورود البدل مع تكرر العامل صريحاً كثير، كقوله تعالى: ?لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ?[الأعراف:75].
والثاني: زيادة التقرير والإيضاح؛ وذلك لأن كون المسند إليه مذكوراً بعد توطئة تقتضي ذكره مرتين، فيوجب تقريره وإيضاحه قطعاً، وكونه مذكوراً مرتين ظاهر في بدل الكل وفي بدل البعض أيضاً؛ لأن البعض مذكور في ضمن الكل قطعاً.
وأما في الاشتمال فلأن قولك: سلب زيد ثوبه بمعنى سلب شيء زيداً ثوبه، ومن ثم يقال في بدل الاشتمال: ذكر المسند إليه إجمالاً ثم تفصيلاً في[57أ] وكذا ذكر إجمالاً ثم تفصيلاً في بدل البعض، فهما في الإيضاح أقوى من بدل الكل، وإن كانا أضعف منه في التقرير.(1/259)
أما كونهما أقوى منه في الإيضاح؛ فلاشتمالهما على الإجمال والتفصيل قطعاً، وليس ذلك واجباً في بدل الكل، وقد يكون فيه التفسير بعد الإبهام نحو: ترجل زيد فإن الفائدة تحصل من زيد مع زيادة التعريف.
وأما كونه أقوى منهما في التقرير فلاشتماله على ذكر الشيء صريحاً مرتين بخلافهما، ولهذا قدمهما صاحب (المفتاح) على الكل؛ لكونهما أظهر في الإيضاح وأرسخ في البدلية، ولا تنتقض هذه العلة بكون بدل الكل أظهر في التقرير؛ لأنه لم يكن أرسخ في البدلية؛ لأن بدل الكل يحتمل عطف البيان ولظهور التوطئة فيهما؛ لأن بدل الكل عين المبدل منه، فجعل أحدهما توطئة نوع بحكم .
وأما تعقيب المسند إليه بما يسمى فصلاً نحو: زيد هو المنطلق فهو حيث أريد تخصيصه للمسند بالمسند إليه، أعني جعله صاحب المسند إليه لا يتجاوزه إلى غيره، فإن أريد بالمنطلق الجنس كان التخصص مستفاداً من اللام؛ لأن اعتبار دخول اللام مقدم على الفصل، وأفاد الفصل تأكيد ذلك التخصيص، وإن أريد المعهود كان التخصيص مستفاداً من الفصل وحده ولا استبعاد في جواز التخصيص قلباً أو تعييناً في المعهود؛ فإنك إذ قلت: زيد هو المنطلق، وأردت المعهود، وخاطبت به من اعتقد أن عمراً هو ذلك المنطلق المعهود كان قصر قلب، وإذا خاطبت به المتردد كان قصر تعيين، وقد أجاز بعضهم دفع الشركة عن المعهود أيضاً كقوله تعالى: ?وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?[البقرة:5] فإنه قد اشتهر بأن جماعة مفلحون في الآخرة، فربما يوهم أن غير المتقين يشاركهم في ذلك، فأريد قصر المفلحين المعهودين فيهم، فقد قصد هنا بالقصر على تقدير [57ب] كون اللام للعهد قطع الشركة وليس ببعيد، ويكون القصر حينئذ مستفاداً من الفصل، وقد صرحوا أن القصر تفرق بين النعت والخبر، ويفيد تأكيد ثبوته للمخبر عنه وقصره فيه.
ولنكتفي بما تحمله هذه الوريقات من الضمائر المؤكد بها وعلى ما يدل، ثم نرجع إلى ما سبق الكلام لأجله.(1/260)
قد سبق ما ذكره ابن يعيش وتمثيل جار الله في الضمير المؤكد.(1/261)