[مقروءات الإمام المتوكل إسماعيل]
ولما جمعنا ذلك المجلس الشريف سألته أيده الله عن قراءته فقال: في (المكمل شرح المفصل) فأنشدته قول القائل:
صبور على درس الدفاتر مقبل
هل النحو إلا طود فخر يناله
إلى آخر الأبيات المتضمنة لمدح مفصل جار الله رحمه الله فاستدعى نقلها.(1/252)
[بين صاحب الترجمة ووالد المؤلف]
(بحث في الضمائر)
ثم ذكر مسألة من (المكمل) في التأكيد وجرى فيها البحث إذ ذاك فحرر والدي قدس الله روحه فيها تحريراً يقول فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد الأمين، وعلى آله المطهرين، وعلى مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، المتوكل على الله رب العالمين أيده الله [54أ]بعزيز نصره آمين
وبعد .. فإن الله لما مَنَّ -وله الحمد - بتيسير زيارته وزيارة الأئمة الطاهرين عقب عوده الميمون من محروس (ضوران) المقرون بالعز والنصر والإحسان إلى محروس ربع (شهارة) المأنوس حرسها الله في شهر رجب سنة أربع وسبعين بعد الألف ختمها الله وما بعدها بالأمن والإيمان، والعفو والغفران، اجتمعنا بولده مولانا السيد العلامة عز الإسلام: محمد بن أمير المؤمنين المتوكل على الله -أيده الله وحفظهم للإسلام والمسلمين- فوجدناه في علماء الآل واسطة عقدهم الثمين المفصل، وحصلت بيننا وبينهم مذاكرة ومراجعة في عدة مسائل، ومن جملة ما ذكره لنا ما قاله صاحب (المفصل) في تأكيد الضمير المنصوب والمجرور من التمثيل بقوله: (رأيتك أنت، ومررت بك أنت) وما نقل في حاشيته عن ابن يعيش أنهم أكدوا ذلك بالمرفوع؛ لأنهم لو أكدوه بالمنصوب لكان بدلاً لا تأكيداً، فاستغرب بعض علماء عصرنا ما علل به ابن يعيش واستطرفه ولم يتعرض في (المكمل شرح المفصل) في هذا الموضع للتعليل، لكن وجدت في (المكمل) في بحث توسط ضمير الفصل ما يدل على علةٍ تصلح لذلك حيث قال: قوله أحد الضمائر المنفصلة المرفوعة إنما شرط أن يكون منفصلاً؛ لأن الضمير المتصل إنما يكون إذا كان فاعلاً أو مفعولاً أو صفة، أو كان قبل حرف جر، وهذه الأشياء منتفية هنا؛ وإنما اشترط أن يكون ضمير اً مرفوعاً؛ لأن هذا الضمير كالتأكيد لما قبله، فإن كان هذا الضمير بين المبتدأ وخبره، وبين اسم كان وخبرها فكونه مرفوعاً ظاهراً، وإن كان بين إسم إن وخبرها أو(1/253)
بين مفعولي ظننت فحقه أن يكون منصوباً؛ لأن ما قبله منصوب، ولكن جعله ضميراً مرفوعاً منفصلاً؛ لأن المنفصل المرفوع أخف من المنصوب المنفصل لأن الغرض منه ليس[54ب ] إلا الفصل، والفصل بما هو أقل حروفاً أولى مما هو أكثر حروفاً فقولك: إن زيداً هو المنطلق أخف من قولك: إن زيداُ إياه المنطلق، ثم قال: اختلفوا في إعرابه فقال بعضهم: إعرابه إعراب ما قبله؛ لأنه تأكيد له لأنه مع ما بعده كشيء واحد، ولفظ ابن يعيش على قوله في (المفصل) ورأيتني أنا، لم يقل إياي لئلا يكون بدلاً؛ لأنهم التزموا في التأكيد بالمضمر أن يكون بصيغة الضمير المرفوع المنفصل للفرق بينه وبين البدل؛ لأن البدل لا يأتي إلا على إعراب المبدل منه - هذا كلامه م يذكر العلة في تأكيد المجرور بالمرفوع، وأنت خبير أنك إذا جمعت بين كلام ابن يعيش، وبين كلام (المكمل) وجدتهما غير متنافيين، وأنه يصلح كل منهما علة مستقلة بل كلام (المكمل) أولى؛ وذلك لأن كلام ابن يعيش ومن معه من النحاة عليه ما عليه من كلام الرضي حيث لم يسلم التزام ذلك، وإنما صرح بالجواز فقط، بل التزمه في مثالين ستقف عليهما فيما نذكره من كلامه، قال الرضي في التأكيد: وقد جوز في تكرير الضمير المتصل وجهاً آخر غير تكرير العماد وهو: أن تكرره منفصلاً فيقول في المرفوع: ضربت أنت؛ وهو من باب تكرير اللفظ، وإن كان الثاني مخالفاً للأول لفظاً؛ إذ الضرورة داعية إلى المخالفة؛ لأنه لا يجوز تكريره متصلاً بلا عماد؛ لئلا يصير المتصل غير متصل ويقول في المجرور: مررت بك أنت وبه هو؛ لأنه لا ضمير للمجرور منفصل حتى يؤكد به فاستعير له المرفوع.(1/254)
وأما المنصوب المتصل فأصله أن لا يؤكد إلا بالمنصوب المنفصل إذ للمنصوب ضمير منفصل، فيقال: رأيتك إياك ورأيته إياه، لكنه كما أجازوا تأكيده بالمنصوب المنفصل أجازوا تأكيده بالمرفوع المنفصل نحو: رأيتك ورأيته هو، فالمرفوع المنفصل يقع تأكيداً لفظياً لأي متصل كان مرفوعاً، أو منصوباً، أو مجروراً، وإنما كان كذا دون المنصوب المنفصل لقوته وأصالته؛ إذ المرفوع قبل المنصوب، والمجرور متصرف فيه أكثر؛ وسيأتيك بعد الأبيات –إن شاء الله- وجه قوته وأصالته، ومن ثم لم يقع الفصل إلا بصيغة المرفوع المنفصل كما يجيء في باب الضمائر، ولولا هذا النظر لكان القياس أن يؤكد الضمير المجرور بالمنصوب[55أ] المنفصل لما بين النصب والجر من الأخوة كما يجيء في باب المثنى وجَمْعَيِ التصحيح، وباب ما لا ينصرف.
وقال النحاة: إن المنفصل في نحو: ضربتك أنت تأكيد، وفي ضربتك إياك بدل؛ وهذا عجيب فإن المعنيين واحد وهو تكرير الأول بمعناه، فيجب أن يكون كلاهما تأكيداً لاتحاد المعنيين، والفرق بين التأكيد والبدل معنوي كما يظهر في حد كل منهما.
وقال الزمخشري في: مررت بك بك: (إن الثاني بدل وهو أعجب من الأول؛ إذ هو صريح التكرير لفظاً ومعنى، فهو تأكيد لا بدل، وهذا مثل قوله في باب المنادى: إن الثاني في: يا زيد بدل، وجميع ذلك تأكيد لفظي، بل يمكن في بدل البعض والاشتمال إبدال الضمير المنصوب من المنصوب نحو قولك: ثلث الرغيفين أكلتهما إياه، وعلم الزيدين استحسنتهما إياه، كما يجيء في باب البدل، ولا يجوز أن يخالف البدل و المبدل منه، فلا نقول: أكلتهما هو كما جاز ذلك في التأكيد؛ لأن المقصود في البدل هو الثاني، فكأنه باشره الناصب فلا يجيء مرفوعاً، ألا ترى أنك تقول في باب النداء: يا زيد أخ فتجعله كالنداء المستقل، هذا كله في غير المستقل .(1/255)
وأقول: أما تَعجب الرضي من جعل يا زيد زيد بدلاً وهو تأكيد لفظي، وقد ينافي إلا قليل أنه بدل لا تأكيد، بخلاف رأيت زيداً زيداً فإنه توكيد، وفرق بينهما أن الأول نداء لا مدخل للتسامح فيه؛ لأن المنادي لا ينادي شخصاً إلا بعد أن يتسبب بذلك الشخص أمر يدعو المنادي ويحثه على أن يناديه، فلا يتساهل في النداء لما في تساهله وتوانيه من قوة مناعته ومبانيه بخلاف الثاني، فإنه إخبار وفيه يجزي التسامح والتجوز، فجاز أن يقع زيد الثاني فيه تأكيداً بأن لا يسامح؛ هذا معنى كلامه، وهو يؤيد ما قاله جار الله، ثم قال الرضي بعد كلام: وقد يفيد بعض الأبدال معنى الشمول، فتجري مجرى التأكيد وذلك قولهم[55ب]: ضَرَبَ زَيْدٌ بطنه وظهره أو يده ورجله، وهو بدل البعض من الكل في الأصل، ثم يستفاد من المعطوف والمعطوف عليه معاً معنى كله، فيجوز أن يكون ارتفاعهما على البدل أو على التأكيد، وكذا قولهم: مطرنا سهلنا وجبلنا، ومُطِرْنَا زرعنا وضرعنا، ومطر قومك ليلهم ونهارهم؛ هذه الثلاثة في الأصل بدل الاشتمال فجرت مجرى التأكيد؛ لأن المعنى مطرت أماكننا كلها، ومطرت أموالنا كلها، ومطرت أوقاتهم كلها على حذف المضاف من متبوعاتها، فيجوز أن يكون ارتفاعها على التأكيد ويجريها مجرى أجمع، جاز حذف الضمير منها؛ هذا كلام الرضي في التأكيد، ثم قال الرضي في ضمير الفصل بعد أن ذكر تقرير سيبويه والخليل في تعليل تسميته فصلاً لفصله الاسم الذي قبله عما بعده، ودلالته على أنما بعده ليس من تامه، بل هو خبره ومآله إلى ما قرره غيرهم من البصريين، ثم قال: وإنما قلنا كان حق المبتدأ أن يكون معرفة؛ لأن الفصل يفيد التأكيد، ولأن معنى زيد هو القائم: زيد نفسه القائم لكنه ليس تأكيداً؛ لأنه يجيء بعد الظاهر، والضمير لا يؤكد به الظاهر، فلا يقال: مررت بزيد هو نفسه، وأيضاً تدخل اللام عليه ونحو قوله تعالى: ?إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ?[هود:87] ولا يقال إن زيداً لنفسه قائم، وقد(1/256)