[بينه والمنصور العباسي]
وكان أبو جعفر المنصور العباسي يقول قبل خلافته في محمد [عليه السلام]: (هذا مهدينا أهل البيت) وكان يعظمه ويخدمه بنفسه ويقر بفضله، ثم انتهى حاله بعد ذلك إلى سفك دمه في حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد ذكر علماؤنا من زهده في الدنيا وطلبه للآخرة وما قام له من رفع المظالم وزوال المآثم واجتناب المحارم وما أحدثه الغواة في العوالم - لولا ما تعجله من الشهادة ولحوقه بآبائه أهل العلم والزهد والعبادة - ما يريك العجب العجاب ويوصلك إلى طوبى وحسن مآب.(1/167)


[(21)الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن (النفس الرضية)]
( 97 - 145 هـ / 716 - 763 م)
وأما الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن عليه السلام فكان من العلم والورع والزهد بالمحل العظيم.
نشأ على العلم، والعفاف، والصلاح، والتقوى، والطهارة، وجمع بين العلم والعمل حتى بلغ أعلى الرتب وأسناها وشرب من موارد الزهد أرواها.
سئل إبراهيم بن أبي يحيى المدني وكان من أصحابه فقيل له: قد رأيت محمداً وإبراهيم ابني عبد الله فأيهما كان أفضل؟
فقال: (والله لقد كانا شريفين فاضلين، كريمين عابدين، عالمين زاهدين، وكان محمد يعرف لإبراهيم فضله، وكان إبراهيم يقدم أخاه محمد، وقد مضيا شهيدين حميدين). وكان قد خرج إبراهيم بن عبد الله إلى (البصرة) داعياً لأخيه محمد بها؛ فأخذ له البيعة واستولى على (البصرة) وقام بالأمر هناك حتى ورد عليه نعي أخيه أول يوم من شوال سنة خمس وأربعين ومائة، وهو يريد أن يصلي بالناس فصلى بهم، ثم رقى المنبر وخطب ونعى إلى الناس أخاه محمداً [عليه السلام] ثم تمثل يقول:
يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا[32ب]
أو أوحش القلب من خوف لهم جزعا
حتى نموت جميعاً أو نعيش معا

إن المنازل يا خير الفوارس من
الله يعلم أني لو خشيتهم
لم يقتلوه ولم أسلم أخي لهم(1/168)


[خطبته عند إبلاغه استشهاد أخيه محمد]
وكان من كلامه على المنبر: (اللهم إن كنت تعلم أن محمداً إنما خرج غضباً لدينك ونفياً لهذه النكتة السوداء وإيثاراً لحقك؛ فارحمه واغفر له واجعل الآخرة خيراً له مرداً ومنقلباً من الدنيا). ثم حرض بريقه وتردد الكلام في فيه فانتحب باكياً وبكى الناس؛ ولما نزل بايعه علماء (البصرة) وعبادها وزهادها واختصت (الزيدية) به مع (المعتزلة) ولازموا مجلسه وتولوا أعماله، وكان أبو حنيفة يدعو إليه سراً مخافة السلطان، وكتب أبو حنيفة إليه: إذا أظفرك الله بآل عيسى بن موسى وأصحابه فلا تسر فيهم سيرة أبيك يوم الجمل، فإنه لم يقتل المدبر ولم يجهز على الجريح ولم يغنم الأموال؛ إن القوم لم يكن لهم فئة ولكن سر فيهم سيرته (يوم صفين) فإنه دفف على الجريح وقسم الغنيمة لأن أهل (الشام) كان لهم فئة؛ فظفر أبو جعفر بكتابه، فسقاه شربة مات منها شهيداً في حب أهل البيت عليهم السلام ، وكان إبراهيم [عليه السلام] يقول: (هل هي إلا سيرة علي [عليه السلام] أو النار).
ومن كلامه [عليه السلام]: (إني وجدت جميع ما يطلبه العباد عند الله في ثلاث: في المنطق والنظر والسكوت، فكل منطق ليس فيه ذكر فهو لغو وكل سكوت ليس فيه فكر فهو سهو وكل نظر ليس فيه اعتبار فهو غفلة، فطوبى لمن كان منطقه ذكراً ونظره اعتباراً وسكوته تفكراً ووسعه بينة) وبكى على خطبته وسلم المسلمون منه ويكفي في تأثيره للباقي وإعراضه عن الفاني، وما أراده من إزالة المنكرات وإماتة البدع المحرمات ما أشرنا إليه.(1/169)


[(22) الإمام الحسين بن علي (صاحب فخ)]
( 128 - 169 هـ / 745 - 785 م)
وأما الإمام الحسين بن علي الفخي عليه السلام فكان من العلم والفضل، والزهد والكرم، والصلاح والعفاف، وأوصاف الكمال كلها بالرتبة التي لا تنكر.
نشأ على نهج السداد وطريق الرشاد، جامعاً بين العلم والعمل حتى انتهى إلى الذروة العالية، وانتشرت عنه أنوار الفضائل المتلألئة حتى فاز بالشهادة في (فخ)، ولما أقبل جيش العباسية أمر أميرهم محمد بن سليمان إلى عسكر الحسين بن علي [عليه السلام] من يأتيه بخبره فقال: اذهب حتى تراه، فأخبرني بما رأيت.
قال: فما رأيت حللا ولا قللا، ولا رأيت إلا مصلياً [33أ] أو مبتهلاً أو ناظراً في مصحف أو معه السلاح.
قال: فجئته فأخبرته، فضرب يداً على يد وبكى حتى ظننا أنه سينصرف، ثم قال: هم والله أكرم عند الله وأحق بما في أيدينا منا ولكن الملك عقيم؛ والله لو أن صاحب القبر نازعنا في الملك لضربنا خيشومه بالسيف، ثم كان ما كان من استشهاده [عليه السلام].
ولما احتضر محمد بن سليمان كانوا يلقنونه الشهادة، فيقول: (ألا ليت أمي لم تلدني ولم أكن شهدت حسينا يوم فخ ولا الحسن)، ولو مد له في الأجل، وثنى له الوساد لأحيى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسار بسيرة وصيه [عليه السلام] ولكنه أكرم بالشهادة وفاز من الله بالسعادة، وهكذا سائر أهل البيت النبوي والعنصر المصطفوي، لا ترى فيهم إلا من يؤثر الآخرة ويعرض عن الدنيا؛ وكثير منهم حمله الخوف من الظالمين على التخفي منهم.(1/170)


[(23) استطراد: عيسى بن زيد بن علي (ع)]
( 109 - 168 هـ وقيل 169 هـ / 758 - 784 م)
أنظر إلى فقيه العترة وعالمها عيسى بن زيد [بن علي بن الحسين] كيف كان يسقي على جمل في صورة البدوي.
قال يحيى بن الحسين بن زيد بن علي: قلت لأبي: إني أشتهي أن أرى عمي عيسى بن زيد، فإنه يقبح بمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه، فدافعني عن ذلك مدة وقال: هذا أمر يثقل عليه وأخشى أن ينتقل من منزله كراهة للقائك إياه، فلم أزل ألطف به حتى أذن، فجهزني إلى (الكوفة) وقال: إذا سرت إليها فاقصد دور (بني حي) في السكة الفلانية، وفي وسطها دار لها باب صفته كذا، فاجلس بعيداً منه فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مصفر مستور الوجه، قد أثر السجود في جبهته عليه جبة صوف يستقي الماء على جمل، وقد انصرف يسوق الجمل لا يرفع القدم ولا يضعها إلا ذاكراً لله - عز وجل - ودموعه تنحدر، فقم فسلَّم عليه وعانقه، فإنه سيذعر منك، فعرفه بنفسك فإنه يسكن إليك ويحدثك طويلاً ويسألك عنا جميعاً ويخبرك بشأنه ولا يضجر من جلوسك معه ولا تطل فإنه سيستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك؛ فإنك إن عدت إليه توارى منك واستوحش وانتقل من موضعه وعليه في ذلك مشقة.(1/171)

34 / 95
ع
En
A+
A-