وقال: (ثلاث خصال يجتلب بهن المودة: الإنصاف في المعاشرة والمواساة في الشدة والانطواء على قلب سليم).
وقال [عليه السلام]: (لا تعالجوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم وارحموا ضعفاءكم واطلبوا الرحمة من الله بالرحمة منهم).
وقال [عليه السلام]: (من أمل فاجراً كان أدنى عقوبته الحرمان).
ولما أراد المأمون أن يزوجه ابنته أم الفضل كره ذلك بنو العباس وقالوا: إنه صبي لا علم له، فأمرهم باختباره فأجمعوا على يحيى بن أكثم ووعدوه إن أخجله أشياء كثيرة، فحضروا مجلس المأمون فسأله يحيى عن مسائل أجابه فيها أحسن جواب بفصاحة ولسان ذلق؛ فعجبوا منه، فقال له المأمون: إن رأيت أن تسأل يحيى عما سألك.
فقال: ذلك إليه يا أمير المؤمنين.
فقال يحيى: يسأل فإن كان عندي في ذلك جواب وإلا أستفديه.
فقال أبو جعفر الجواد: ما تقول في رجل نظر إلى امرأة أول النهار حراماً فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلت له؟
فقال يحيى: أفدنا.
فقال: هذه أمة نظر إليها أول النهار بشهوة وذلك حرام، فلما ارتفع النهار ابتاعها فحلت، فلما كان الظهر اعتقها فحرمت، فلما كان العصر تزوجها فحلت، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت، فلما كان وقت العشاء كفر عن الظهار فحلت، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت، فلما كان الفجر راجعها فحلت؛ فأقبل المأمون عليهم وقال: هل فيكم أحد يجيب عنها بمثل هذا؟ ثم قال لأبي جعفر: إني مزوجك ابنتي أم الفضل [26ب]فاخطب لنفسك.
فقال: الحمد لله إقراراً بنعمته ولا إله إلا الله إخلاصاً لوحدانيته وصلى الله على سيدنا محمد سيد بريته والأصفياء من عترته، وبعد..(1/147)
فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام؛ فقال تعالى: ?وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?[النور:32]، ثم إن محمد بن علي بن موسى [عليه السلام] خطب إلى أمير المؤمنين المأمون ابنته أم الفضل وقد بذل لها من الصداق مهر جدتها فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خمسمائة درهم جياداً، فهل زوجتني إياها يا أمير المؤمنين على هذا الصداق المذكور؟
فقال المأمون: زوجتك ابنتي أم الفضل على هذا الصداق المذكور.
فقال: قبلت.
قال الرماني: وأخرج الخدم مثل السفينة من الفضة مطلية بالذهب فيها الغالية مضروبة بأنواع الطيب والماء ورد والمسك، ثم وضعت موائد الحلوى وفرقت الجوائز وتصدق المأمون على الفقراء وأهل الأربطة والمدارس ولم يزل عنده معظماً إلى أن توجه إلى المدينة ولما وصل باب الكوفة عند دار المسيب نزل به ودخل مسجداً قديماً ليصلي فيه المغرب وفي صحنه شجرة نبق لم تحمل قط، فتوضأ في أصل الشجرة وصلى معه الناس المغرب ثم جلس هنيهة يذكر الله ثم تنفل أربعاً وسجد بعدهن سجدتي الشكر ثم انصرف، فحملت النبقة من ليلتها نبقاً لا عجم له فعجبوا من ذلك.(1/148)
[(12) علي بن محمد بن علي (العسكري)(ع)]
( 214 - 254 هـ / 829 - 868 م)
ومن شمائل ابنه أبي الحسن علي بن محمد العسكري عليه السلام.
أنه خرج يوماً من (سر من رأى) فجاء أعرابي فلم يجده في داره فقصده إلى موضعه فقال: ما حاجتك ؟
قال: أنا من (الكوفة) من أولياء جدك علي بن أبي طالب، وعليّ دين أثقل ظهري ولم أقصد غيرك.
فقال: كم دينك؟
قال: عشرة آلاف.
فقال: طب نفساً، ثم أنزله فلما أصبح قال: أريد منك أمراً لا تخالفني فيه، ثم أخذ ورقة وكتب فيها بخطه ديناً عليه للأعرابي بالمبلغ المذكور؛ لأن ديون المكارم لازمة وقال: خذه فإذا حضرت (سر من رأى) ورأيتني في مجلس حافل فأحضر الخط وطالبني به وأغلظ عليّ في القول ففعل ذلك، وجعل أبو الحسن يعتذر ويطيب نفسه بالقول ويعده الخلاص وكذا الحاضرون، وطلبه المهلة ثلاثة أيام، فنقل ذلك إلى المتوكل فأمر لأبي الحسن بثلاثين ألفاً؛ فقال للأعرابي [27أ] خذ المال واقض دينك واستعن بالباقي.
فقال: يا بن رسول الله إن العشرة بلوغ مطلبي.
فقال: خذه كله فهو رزقك ساقه الله إليك؛ فأخذه وانصرف وهو يقول: ?اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ?[الأنعام:124].
وقال خيران الاسباطي: قدمت على أبي الحسن (المدينة) المشرفة فقال: ما خبر الواثق؟
قلت: في عافية وأنا أقرب عهداً به.
فقال: مات (الواثق) وقعد (المتوكل) وقتل (ابن الزيات) بعد مخرجك بستة أيام. وسبب شخوصه من (المدينة) إلى (سر من رأى) أن عبد الله بن محمد كان يلي للمتوكل الحرب والصلاة بـ(المدينة) فسعي به إلى المتوكل وكان بإذنه؛ فكتب أبو الحسن إلى المتوكل تحامله عليه، فأجابه وجعل يعتذر ويلين له القول وطلبه إليه على جميل من القول والفعل وكتب إليه: (أما بعد: فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك راعٍ لقرابتك موجب لحقك مؤثر من الأمور فيك وفي أهل بيتك لما فيه صلاح حالك وحالهم، يبتغي بذلك رضى الله.(1/149)
وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عما يتولاه إذا كان على ما ذكرت من جهالته بحقك، ولما رماك به من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين برأيك منه ولما تبين له من صدق نيتك وحسن طويتك وأنك لم تؤهل نفسك لشيء مما ذكره عنك، وقد ولي أمير المؤمنين ما كان يليه عبد الله بن محمد، محمد بن الفضل وأمره بإكرامك والانتهاء إلى رأيك وعدم مخالفتك وأمير المؤمنين مشتاق إليك، ويحب إحداث العهد بقربك، والتيمن والنظر إلى ميمون طلعتك المباركة، فإن نشطت لزيارته والمقام قبله وفي جهته ما أحببت حضرت، ومن اخترته من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت وتسير كيف شئت، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة بن أعين مولى أمير المؤمنين في خدمتك هو ومن معه من الجند فالأمر إليك؛ وقد كتبت إليه بطاعتك، فما أجد عند أمير المؤمنين من أهل بيته ألطف منزلة ولا هو أنظر إليهم وأشفق عليهم منك إليه والسلام).
وكتب إبراهيم بن العباس في سنة ثلاث ومائتين فخرج أبو الحسن ويحيى بن هرثمة والجند حافين به إلى (سر من رأى) فتقدم المتوكل بأن يحجب عنه، فنزل في خان الصعاليك يومه ثم أفرد له المتوكل داراً حسنة فأقام بها مدة مكرماً في ظاهر الحال والمتوكل يتبع له الغوائل فلم يقدره الله عليه [27ب]ومرض المتوكل من جراحٍ بحلقه، فأشرف على الهلاك ولم يحسن أحد أن يمسه بحديد؛ فنذرت أمه لأبي الحسن إن عوفي بمال جليل فقال الفتح للمتوكل: لو بعثت إلى هذا الرجل –يعني أبا الحسن- فربما يكون عنده فرج لك؛ فمضى إليه رسوله فقال: خذوا كسب الغنم، وَدِيفوه بما ء الورد وضعوه على الجراح ينفتح من ليلته بأهون ما يكون، وفيه شفاؤه إن شاء الله، فجعل بعض خواص المتوكل يهزأ منه.(1/150)
فقال الفتح: وما يضر من تجربة ذلك، فوضعوه عليه فانفتح من ليلته وشفي، فبعثت إليه أمه بعشرة آلاف دينار من مالها وبعث إليه المتوكل بفضلة كيس فيه خمسمائة دينار، ثم سعى به البطحاني إلى المتوكل وقال: عنده أموال وسلاح ولا آمن من خروجه عليك؛ فأمر سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلاً، فهجم عليه في جماعة من الأنجاد بالسلاسل وصعدنا إلى السطح وفتحنا عليه بالشموع فلم نجد في داره شيئاً غير كيسين، إحداهما كبير مختوم والآخر صغير فيه فضلة وسيف في جفن خلق وهو قائم يصلي على حصير وعليه جبة صوف وقلنسوة فما ارتاع ولا اكترث.
قال: فأخذت الكيسين والسيف، وسرت بها إلى المتوكل وأخبرته بما رأيت منه، فوجد على الكيس المملوء ختم أمه، فسألها فأخبرته بنذرها، فأضاف إلى الخمسمائة في الصغير مثلها، وقال لسعيد: اردد إليه الكيسين والسيف واعتذر لنا منه؛ فرددتها واعتذرت له وطلبت الحل منه فقال: يا سعيد ?وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ?[الشعراء:227].
وذكر القاضي أحمد بن خلكان أنه حمل على هيئته إلى المتوكل؛ والمتوكل يشرب، فأعظمه وأجلسه إلى جانبه فناوله الكأس فقال: يا أمير المؤمنين ما خامرني قط، فأعفاه واستنشده شعراً فأنشده:
غُلْبُ الرجال فما أغنتهم القُلَلُ
فأودعوا حُفَراً يا بئس ما نزلوا
أين الأسِرَّة والتيجان والحلل
من دونها تضربُ الأستار والكلَلُ
تلك الوجوه عليها الدود تَقْتَتِلُ
فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا[28أ]
باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهم
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا
أين الوجوه التي كانت منعَّمةً
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم
قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا
فبكى المتوكل حتى بلت دموعه لحيته، ثم أمر برفع الشراب وقال: يا أبا الحسن عليك دين؟
قال: نعم أربعة آلاف دينار؛ فدفعت إليه ورده إلى منزله مكرماً.(1/151)