فقال: (يا شقيق، لم تَزَل نعم الله عليَّ ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك) فناولني الركوة فشربت منها فإذا هي سويق يسكر، فوالله ما رأيت قط ألذ منه ولا أطيب فشبعت ورويت، وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً، ثم لم أره حتى حططنا بمكة فرأيته ليلة إلى جنب (قبة الشراب) نصف الليل وهو قائم يصلي بأنين وخشوع وبكاء، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر ثم قام إلى حاشية المطاف فركع الفجر ثم صلَّى فيه الصبح مع الناس ثم طاف إلى بعد شروق الشمس ثم صلَّى خلف المقام ثم خرج يريد الذهاب فخرجت خلفه أريد السلام عليه وإذا بجماعة قد طافوا به يميناً وشمالاً ومن خلفه وقدامه وإذا له حاشية وخدم وحشم وأتباع قد خرجوا معه.
فقلت: من هذا الفتى؟
قالوا: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم.
فقلت: لا يكون هذا إلا لمثل هذا ثم إني انصرفت -روى هذه الحكاية ابن الجوزي في كتاب (مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن)، والحافظ عبدالعزيز بن الأحصر الجنابذي في كتابه (معالم العترة النبوية)، وقاضي القضاة الرامهرمزي في كتابه (كرامات الأولياء).
ومن غرائب ما يروى عنه ما ذكره عبد الله بن إدريس عن ابن سنان أن الرشيد حمل إلى علي بن يقطين ثياباً من جملتها دراعة سوداء منسوجة بالذهب [سوداء] من لباس الخلفاء، فأنفذها علي بن يقطين مع غيرها إلى موسى الكاظم [عليه السلام] فرد الدراعة وقال:احتفظ بها فلك معها شأن، فارتاب علي بن يقطين بردها وجعلها في سفط وختم عليها، وبعد مدة يسيرة تغير علي بن يقطين على غلام له ممن يطلع على أموره وطرده، فسعى بعلي بن يقطين إلى الرشيد وقال: إنه يقول بإمامة موسى الكاظم، ويحمل إليه زكاة ماله والهدايا، ومن جملتها الدراعة السوداء التي أكرمه بها أمير المؤمنين؛ فغضب وقال: لأكشفن عنه فإن صح أزهقت روحه؛ فأنفذ إليه وقال: ما فعلت [23أ]بالدراعة السوداء؟(1/132)
قال: هي عندي يا أمير المؤمنين في سفط فيه طيب مختوم عليها، فقال: أحضرها.
قال: نعم، فاستدعى خادمه فقال: خذ مفتاح البيت الفلاني من داري وافتح الصندوق وأتيني بالسفط فعاد بالسفط مختوماً ففك فإذا بالدراعة فيه لم تلبس.
فقال: ارددها ولن نصدق فيك ساعياً وأتبعه جائزة سنية وضرب الساعي فمات تحت الضرب، وكان موسى الكاظم أعبد أهل زمانه وأكرمهم، يتفقد فقراء (المدينة) ويحمل الدراهم والدنانير إلى بيوتهم ليلاً، والنفقات، ولا يعلمون من أي جهة وصلهم ولم يعلموا ذلك إلا بعد موته.
وكان يدعو [عليه السلام]: اللهم إني أسالك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب.(1/133)
[(10)الإمام علي بن موسى (الرضا) (ع)]
( 153 - 203 هـ / 770 - 818 م)
ومن شمائل ابنه الإمام علي بن موسى (الرضا) عليه السلام.
قال الشيخ كمال الدين بن طلحة: تقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزين العابدين بن علي بن الحسين [عليه السلام] وجاء علي الرضا هذا ثالثهما، ولما جعله (المأمون) ولي عهده كره ذلك أناس وخافوا خروج الخلافة عن بني العباس ففروا عنه، وكان إذا دخل الرضا [عليه السلام] بادر من في الدهليز من الحجاب والخدم إلى القيام والسلام عليه ويرفعون له الستر حتى يدخل، فتفاوضوا بعد نفرتهم عنه على الإعراض عنه، وأن لا يرفعوا الستر له، فجاء الرضا على عادته فلم يملكوا أنفسهم أن قاموا وسلموا عليه ورفعوا له الستر ثم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون وقالوا: إذا جاء لا نرفعه له فجاء اليوم الثاني، وجاء الرضا على عادته، فقاموا فسلموا عليه ولم يرفعوا له الستر فجاءت ريح شديدة فدخلت في الستر ورفعته أكثر مما كانوا يرفعونه!! فدخل ثم عند خروجه جاءت الريح من الجانب الأيسر فرفعته له فخرج!
فقالوا: إن له عند الله منزلة، ارجعوا إلى ما كنتم عليه فهو خير لكم.
وكان الرضا عليه السلام (بمنى) فمر يحيى البرمكي وعلى وجهه منديل من الغبار فقال الرضا: مساكين هؤلاء لا يدرون ما يحل بهم في هذه السنة؛ فكان من أمرهم ما كان.
قال: وأعجب من هذا أنه قال: أنا وهارون كهاتين - وضم السبابة والوسطى - فما عرف معناه إلا بعد موت الرضا [عليه السلام] ودفنه إلى جانبه وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيبه أحسن جواب، وكان قليل النوم كثير الصوم لا يفوته صيام ثلاثة أيام من كل شهر ويقول: ذلك صيام الدهر، وكان كثير المعروف [23ب]والصدقة، وأكثر ما يكون ذلك منه في الليالي المظلمة، وكان جلوسه في الصيف على حصير وفي الشتاء على مسح.(1/134)
وأورد صاحب (تاريخ نيسابور): أن الرضا لما دخل (نيسابور) في السفرة التي استشهد فيها كان في قبة مستورة بالسقلاط على بغلة شهباء، فعرض له الإمامان الحافظان، أبو زرعة الرازي ومحمد بن أسلم الطوسي وخلائق من طلبة العلم فقالاَ: "أيها السيد الجليل أرنا وجهك الميمون وارو لنا حديثاً عن آبائك عن جدك محمد صلوات الله عليه وآله نذكرك به، فأمر غلمانه بكشف المظلة، وأقر عيون تلك الخلائق برؤية طلعته فكانت له ذؤابتان مدليتان على عاتقه، والناس قيام على طبقاتهم ينظرون إليه وهم بين باك وصارخ ومتمرغ في التراب ومقبل لحافر بغلته وعلى الضجيج فصاح الأئمة والفقهاء والعلماء: معاشر الناس استمعوا وأنصتوا، وكان المستملي أبو زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي.
قال علي بن موسى الرضا: حدثني أبي موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر، عن أبيه زين العابدين عن أبيه الحسين شهيد كربلاء عن أبيه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((حدثني جبريل [عليه السلام] قال: سمعت رب العزة سبحانه يقول: كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي)) ثم أرخى الستر على القبة وسار فعد أهل المحابر والدوى الذين كانوا يكتبون فأنافوا على عشرين ألفاً.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: اتصل هذا الحديث ببعض أمراء (السامانية) فكتبه بالذهب وأوصى أن يدفن معه في قبره، فرئي في النوم بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟
قال: غفر لي بتلفظي بـ (لا إله إلا الله وتصديقي بأن محمداً رسول الله).(1/135)
ودخل على الرضا بـ(نيسابور) قوم من (الصوفية) فقالوا: إن أمير المؤمنين (المأمون) نظر فيما ولاه الله تعالى من الأمور فرآكم أهل البيت أولى، فرد هذا الأمر إليك، والأمة تحتاج إلى من يأكل ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود المريض ويشيع الجنازة، وكان الرضا متكئاً فجلس ثم قال: كان يوسف بن يعقوب نبياً فلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب والقباطي المنسوجة بالذهب وجلس على متكيات آل فرعون وحكم وأمر ونهى وإنما يراد من الإمام قسط وعدل إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز. إن الله لم يحرم ملبوساً ولا مطعماً، وتلا قوله تعالى: ?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ?[الأنعام:32].(1/136)