وروى في كتاب (الجوانح والجوامح) لأبي سعيد هبة الله بن الحسن النهاوندي عن أبي بصير قال: كنت مع محمد بن علي -الباقر- في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حدثان: موت والده إذ دخل المنصور أبو جعفر، وداود بن سليمان قبل أن يفضي الملك إلى بني العباس، فجاء داود بن [علي و]سليمان [بن مجالد] إلى الباقر وجلس المنصور ناحية في المسجد فقال له الباقر: ما منع الدوانيقي ألا يأتينا؟
قال: فيه جفاء.
قال الباقر [عليه السلام]: (أما إنه لا تذهب الليالي والأيام حتى يلي هذا أمر هذه الخلائق، فيطأ أعناق الرجال ويملك شرقها وغربها ويطول عمره فيها حتى يجمع من كنوز الأموال ما لم يجمعه غيره) فبعد أن قام داود من عند الباقر [عليه السلام] ذهب إلى المنصور وأخبره فجاء إليه وقال: ما منعني من الجلوس إلا جلالتك وهيبتك، ثم قال: يا سيدي ما الذي يقول داود؟
قال: هو كائن.
قال: وملكنا قبل ملككم؟
قال: نعم.
قال: ويملك بعدي أحد من ولدي؟
قال: نعم.
قال: فمدة بني أمية أطول أم مدتنا؟
قال: مدتكم [أطول]، وليتلقي هذا الملك صبيانكم فيلعبون به كما يلعب بالكرة، هذا ما عهده إليَّ أبي، فلما أفضت الخلافة إليه تعجب من قول الباقر [عليه السلام]، وفي الكتاب المذكور عن أبي بصير قلت للباقر: أنتم ذرية [21ب] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وارث الأنبياء جميعهم.
قال: وارث جميع علومهم.
قلت: فأنتم ورثتم جميع علوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قال: نعم.
قلت: فأنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى، وتبرئوا الأكمه والأبرص وتخبرون الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؟
قال: نعم بإذن الله، ثم قال: ادن مني يا أبا نصير ؛ وكان مكفوفاً فمسح بيده على وجهي، فأبصرت السهل والجبل والأرض والسماء.
فقال: أتحب أن تكون هكذا تبصر وحسابك على الله أو تكون كما كنت ولك الجنة؟
قلت: الجنة أحب إلي.
قال: فمسح على وجهي فعدت كما كنت.(1/127)
[(8) الإمام جعفر بن محمد بن علي (ع)(الصادق)]
( 80 - 148 هـ / 699 - 765 م)
ومن شمائل ابنه الإمام جعفر بن محمد (الصادق) عليه السلام.
قال: لما حضرت أبي الوفاة قال: ادع لي شهوداً أربعة: منهم نافع مولى عبدالله بن عمر فقال: اكتب هذا ما أوصى يعقوب بنيه: ?إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[البقرة:132]، وأوصى محمد بن علي إلى ابنه جعفر بذلك وأمره أن يكفنه في بردته التي كان يصلي فيها [يصلي] الجمعة وقميصه وأن يعممه بعمامته، وأن يرفع قبره مقدار أربع أصابع وأن يحمل أطماره عند دفنه، ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله.
فقلت له: يا أبة ما كان في هذا حتى تشهد عليه؟
فقال: يا بني كرهت أن تغلب وأن يقال: لم يوص إليه، فأردت أن تكون لك الحجة.
وقال ابن أبي حازم: كنت عند جعفر الصادق، فقيل: سفيان الثوري بالباب.
فقال: ائذن له.
فقال جعفر: يا سفيان إنك رجل يطلبك السلطان في بعض الأحيان، وأنا أتقي السلطان فاخرج عني غير مطرود؛ فقال سفيان: حدثني بحديث أسمعه منك أو أقوم.
قال: حدثني أبي عن جدي عن أبيه إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أنعم الله عليه نعمةً فليحمد الله، ومن استبطأ الرزق فليستغفر الله ومن حَز به أمر فليقل لا حول ولا قوة إلا بالله))، فلما قام سفيان قال [أبو جعفر]: خذها يا سفيان ثلاثا وأي ثلاث.(1/128)
[وصية الصادق لولده الكاظم]
وأوصى جعفر الصادق ابنه قال: (يا بني إنه من قنع بما قسم الله له استغنى ومن مد عينه إلى ما في يد غيره مات فقيراً، ومن لم يرضَ بما قسم الله له اتهم ربه في قضائه ومن استصغر زلة نفسه استصغر زلة غيره. يا بني: من كشف حجاب غيره انكشفت عورته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيها ومن داخل السفهاء حقر ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم. يا بني: قل الحق لك وعليك، وإياك والتهمة فإنها تزرع الشحناء[22أ] في قلوب الرجال. يا بني: إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه. يا بني، إذا زرت فزر الأخيار ولا تزر الأشرار فإنهم صخرة لا يتفجر ماؤها، وشجرة لا يخضر ورقها، وأرض لا يظهر عشبها).(1/129)
[بعض المواعظ والحكم المروية عنه(ع)]
وكان رجل من أهل السواد يلازم مجلس جعفر الصادق عليه السلام ففقد يوماً فسأل عنه فقال له رجل يريد أن ينتقصه عنده: إنه رجل نبطي.
فقال جعفر: (أصل الرجل عقله وحسبه دينه وكرمه والناس في آدم مستوون)؛ فخجل الرجل.
وقال سفيان الثوري : سمعت جعفر الصادق [عليه السلام] يقول: عزت السلامة حتى لقد خفي مطلبها، وإن تك في شيء فيوشك أن تكون في الخمول وإن طلبت في الخمول فلم يوجد فيوشك أن تكون في العزلة والخلوة، فإن لم يوجد في العزلة والخلوة فيوشك أن تكون في كلام السلف الصالح، والسعيد من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها عن الناس.
ومن كلامه [عليه السلام]: (تأخير التوبة اغترار وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله هلكة والإصرار على الذنب من مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون).
وقال: أربعة [أشياء] القليل منها كثير: النار والعداوة والفقر والمرض.
وقال: صحبة عشرين يوماً قرابة.
وقال: من لم يستح من العيب ويرعوي عند الشيب ويخشى الله بظهر الغيب فلا خير فيه.
وقال: منع الجود سوء الظن بالمعبود.
وقال: المؤمن من لا يخرجه غضبه عن حق، ولا يدخله رضاه في باطل.(1/130)
[(9) موسى بن جعفر (الكاظم)(ع)]
( 128 - 183 هـ / 745 - 799 م)
ومن شمائل ولده الأمام موسى الكاظم عليه السلام ما أخبر به شقيق البلخي قال: خرجت حاجاً في سنة ست وأربعين ومائة فنزلت (القادسية) فبينما أنا أنظر إذ رأيت الناس في مخرجهم إلى الحج، إذ نظرت إلى شاب حسن الوجه، شديد السمرة، نحيف، فوق ثيابه ثوب صوف، مشتمل بشملة، في رجليه نعلان وقد جلس منفرداً، فقلت في نفسي: هذا الفتى من (الصوفية) ويريد أن يخرج مع الناس فيكون كَلاًّ عليهم في طريقهم، والله لأمضين إليه وأوبخنَّه فدنوت منه فقال: يا شقيق ?اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ?[الحجرات:12] ثم تركني وولى.
فقلت في نفسي: إن هذا الأمر عظيم تكلم على ما في خاطري ونطق باسمي، هذا عبد صالح لألحقنه وأسأله الدعاء، فغاب عني ولم أره فلما نزلنا واقصة، فإذا هو واقف يصلي فقلت: هذا صاحبي أمضي إليه وأستحلله، فلما فرغ من صلاته التفت إليَّ وقال: اتل ?وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى?[طه:82] ثم قام ومضى وتركني.
فقلت: هذا الفتى من الأبدال قد تكلم [22ب]على سري مرتين فلما نزلنا (زيالاً) وإذ أنا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة فسقطت في البئر من يده فرمق السماء بطرفه وسمعته يقول:
وقوتي إذا أردت طعاماً
أنت ريِّي إذا ضمئت إلى الماء
ثم قال: (اللهم إلهي وسيدي مالي سواك فلا تعدمنيها) [قال شقيق]: فوالله لقد ارتفع الماء إلى رأس البئر والركوة طافية عليه، فمد يده وأخذها، ملأ فتوضأ منها وصلى أربع ركعات ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويجعل في الركوة ويحركها ويشرب، فأقبلت نحوه وسلمت عليه فرد علي السلام؛ فقلت: أطعمني من فضل ما أنعم الله [به] عليك.(1/131)