قلت: لا، ثم نظرت فإذا ليس قدامي أحد فعجبت من ذلك، وإذ بقائل أسمع صوته ولا أرى شخصه يقول: يا علي بن الحسين، هذا الخضر ناجاك، وكان يقول لأولاده: (إذا أصابتكم مصيبة من مصائب الدنيا أو نزل بكم فاقة أو أمر فادح فليتوضأ الرجل منكم وضوءه للصلاة وليصل أربع ركعات أو ركعتين، فإذا فرغ من صلاته فليقل: يا موضع كل شكوى، يا سامع كل نجوى، يا شافي كل بلوى ويا عالم كل خفية ويا كاشف ما يشاء من بلية، يا مناجي موسى، يا مصطفي محمد، ويا متخذ إبراهيم خليلاً، أدعوك أدعوك دعاء من اشتدت فاقته وضعفت قوته وقلت حيلته، دعاء الغريق الغريب الفقير الذي لا يجد لكشف ما هو فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين).
قال علي بن الحسين: لا يدعو بها رجل أصابه بلاء إلا فرج الله عنه.(1/122)


[(7) محمد بن علي بن الحسين (الباقر)(ع)]
( 57 - 114 هـ / 676 - 732 م)
ومن شمائل ابنه أبي جعفر: محمد بن علي الباقر عليه السلام.
وهو الذي يقول فيه مالك بن أعين الجهني:
ـرآن كانت قريش عليه عيالاً
جبال تورث علماً وجالا

إذا طلب الناس علم القـ
نجوم تهلل للمدلجين

وفيه يقول آخر:
وخير من لبى على الأجبل

يا باقر العلم لأهل التقى(1/123)


[مواقف من زهده وعبادته]
ومما حكاه عنه مولاه أفلح.
قال: حججت مع الباقر فلما نظر البيت بكى.
فقلت: بأبي أنت إن الناس ينظرون إليك فلو رفقت بصوتك قليلاً.
فقال : ويحك يا أفلح، لم لا أرفع صوتي بالبكاء لعل الله ينظر إلي برحمة منه فأفوز بها غداً، ثم طاف وجاء حتى ركع خلف المقام، فلما فرغ فإذا موضع سجوده مبتل من دموع عينيه.
وروى عنه ابنه جعفر قال: كان أبي يقوم جوف الليل فيقول في تضرعه: أمرتني[20ب ] فلم آتمر ونهيتني فلم أنزجر فها أنا عبدك بين يديك مقرٌ لا أعتذر.(1/124)


[بعض المواعظ والحكم المروية عنه(ع)]
ومن كلامه [عليه السلام]: (ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شيء أحب إلى الله من أن يسأل ولا يدفع القضاء إلا الدعاء، وإن أسرع الخير ثواباً البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، كفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه وأن يأمر الناس بما لايفعله وأن ينهى الناس عما لا يستطيع التحول عنه وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه).
ومن كلامه [عليه السلام]: (ما اغرورقت عين بمائها من خشية الله تعالى إلا حرم الله وجه صاحبها على النار، فإذا سألت على الخدين دموعه لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها الخطايا، ولو أن باكياً بكى في أمة يحرم الله تلك الأمة على النار).
وعن جابر الجعفي قال: قال لي محمد بن علي بن الحسين [عليه السلام]: ياجابر إني لمشتغل القلب.
قلت: وما يشغل قلبك؟
قال: يا جابر، إنه من دخل قلبه دين الله الخالص شغله عما سواه. يا جابر ما الدنيا، وما عسى أن تكون، هل هي إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها، يا جابر، إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لزاولها ولم يأمنوا الآخرة لأهوالها وإن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، إن نسيت ذكروك وإن ذكرت أعانوك قوالين لحق الله، قوامين بأمر الله، فاجعل الدنيا كمنزل نزلت به وارتحلت منه، وكمال أصبته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء واحفظ الله فيما استرعاك من دينه وحكمته.
وقال : (الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن فإذا وصلا إلى مكان التوكل استوطناه).
وقال: (ما دخل قلب امرءٍ شيءٌ من الكبر إلا نقص من عقله مثل ذلك قل أو كثر).
وقال: (سلاح اللئام قبيح الكلام).
وقال: (والله لموت عالم أحب إلى إبليس من سبعين عابداً).
وقال: (شيعتنا من أطاع الله).(1/125)


[جوده وكرمه]
وكان عليه السلام مع ما هو عليه من العلم والفضل والسؤدد ظاهر الجود، مشهور الكرم مع كثرة عياله وتوسط حاله - كانوا يدخلون عليه فلا يخرجون حتى يطعمهم الطعام الطيب ويكسوهم ويهب لهم الدراهم، ويقول: (ما حسنة الدنيا إلا صلة الإخوان والمعارف)، وكان يصل بالألف وأكثر منه.
قال الأسود بن كثير: شكوت إليه جور الزمان وجفاء الإخوان [21أ] فقال: بئس الأخ أخاً يرعاك غنياً، ويجفوك فقيراً، ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم فقال استعن بهذا، فإذا فرغت فأعلمني .
وأخرج أبو نعيم في (الحلية) عن الصادق عن الباقر عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من نقله الله من ذل المعاصي إلى عز التقوى أغناه بلا مال وأعزه بلا عشيرة وآنسه بلا أنيس ومن خاف الله [تعالى] أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء، ومن رضي من الله باليسير من الرزق رضي منه باليسير من العمل، ومن زهد الدنيا ثبت الله الحكمة (في قلبه) وأنطق بها لسانه وأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار القرار)).
وروى أبو سعيد منصور بن الحسين في كتابه (الدرر): أن الباقر [عليه السلام] قال لابنه الصادق: (يا بني، إن الله خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء، خبأ رضاه في طاعته فلا تحقرن من الطاعة شيئاً فلعل رضاه فيه وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئاً فلعل سخطه فيه وخبأ أولياءه في خلقه فلا تحقرن منهم أحداً فلعله ذلك الولي).(1/126)

25 / 95
ع
En
A+
A-