[حزن الزهراء لوفاة أبيها (ص)]
ولم تضحك الزهراء [عليها السلام] بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وجاءت إلى قبر أبيها بعد موته صلوات الله عليه[وآله وسلم] فوقفت عليه وبكت، ثم أخذت قبضة من تراب فجعلتها على وجهها وأنشأت تقول:
أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت على الأيام عدن لياليا
ما ذا على من شم تربة أحمد
صبت عليّ مصائب لو أنها
وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام لما ماتت فاطمة عليها السلام وفرغ من دفنها رجع إلى البيت، فاستوحش فيه وأنشأ يقول:
وصاحبها حتى المماتِ عليل[17أ]ُ
وكل الذي دون الفراق قليلُ
دليل على أن لا يدوم خليلُ
أرى علَلَ الدنيا عليَّ كثيرةً
لكل اجتماع من خليلين فرقةٌ
وإن افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ(1/107)
الباب الثالث في ذكر أئمة العترة من الزهراء عليها السلام وزهدهم في الدنيا وإقبالهم على الآخرة
ونحن نذكرهم في كتابنا هذا على الترتيب ونأتي بما هو مقصود الكتاب من أحوالهم التي بها يقتدي المؤمنون ويهتدي بها في السيرة أولياء الله المتقون(1/108)
[(4) الإمام الحسن بن علي (ع) (أبو محمد)]
( 3ق.هـ - 50 هـ / 624 - 670م )
أما الإمام السبط أمير المؤمنين الحسن بن علي، سيد شباب أهل الجنة صلوات الله عليه فلم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه، وعن أمير المؤمنين[عليه السلام] أنه أشبه برسول الله ما بين الصدر إلى الرأس، وأخوه الحسين [عليه السلام] فيما كان أسفل من ذلك وكان عليه السلام من أعلم الناس بعد أمير المؤمنين [عليه السلام].
كان يجلس في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجتمع الناس حوله فيتكلم بما يشفي غليل السائلين ويقطع حجج المجادلين.
روى الواحدي في تفسيره (الوسيط): أن رجلاً دخل (مسجد المدينة) فوجد شخصا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس حوله مجتمعون؛ فجاء إليه الرجل فقال: أخبرني عن شاهد ومشهود؟
فقال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، فقام يجاوزه إلى غيره يحدث في المسجد فسأله عن شاهد ومشهود، فقال: أما الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم النحر.
قال: فتجاوزهما إلى ثالث –غلام كأن وجهه الدينار- وهو يحدث في المسجد، فسأله عن شاهد ومشهود قال: نعم، أما الشاهد فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته عز وجل يقول: ?يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا?[الأحزاب:45]، وقال تعالى: ?ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ?[هود:103]، فسأل عن الأول فقالوا: ابن عباس وعن الثاني فقيل: ابن عمر وعن الثالث فقيل: الحسن بن علي [عليه السلام].(1/109)
ومن عبادته الشهيرة ما نقله الحافظ أبو نعيم في (الحلية): أنه عليه السلام قال: (إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمشِ إلى بيته فمشى عشرين مرة من المدينة على قدميه وخرج [عليه السلام] من ماله مرتين، وقسم ماله وتصدق به لله تعالى ثلاث مرات وكان من أزهد الناس في الدنيا ولذاتها، كثير التمثل بهذا البيت:
إن اغتراراً بظل زائل حمق[18أ]
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها(1/110)
[بعض من الحكم والمواعظ المروية عنه (ع)]
ومن مواعظه [عليه السلام]: (يابن آدم، عف عن محارم الله تكن عابداً وارض بما قسم الله تكن غنياً وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك بمثله تكن عدلاً، إنه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيراً ويبنون مشيدا ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بوراً وعلمهم غروراً ومساكنهم قبوراً.
يابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ بما في يديك لما بين يديك، وإن المؤمن يتزود، والكافر يتمتع ثم يتلو قوله تعالى: ?وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى?[البقرة:197].
وجاء إليه رجل يسأله ويشكو حاله وقلة ذات يده بعد الإثراء فقال [عليه السلام]: يا هذا حق سؤالك يعظم علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله قليل، فإن قبلت الميسور رفعت عني مؤنة الاحتفال والاهتمام بما أتكلفه من واجبك؛ فقال : يابن رسول الله، اقبل القليل واشكر العطية واعذر على المنع. فدعا الحسن [عليه السلام] وكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقضاها فقال: هات الفاضل، فأحضر خمسين ألف درهم، ثم قال: ما فعلت الخمسمائة دينار التي معك؟
قال: هي عندي.
قال: فأحضرها -فدفع الدراهم والدنانير إليه واعتذر منه.
وروى أبو الحسين المدائني قال: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجاً، فلما كانوا ببعض الطرق جاعوا وعطشوا وقد فاتهم أثقالهم، فقصدوا عجوز في خباءٍ عندها شويهة في كسر الخباء؛ فقالت: احتلبوها وامتذقوا لبنها، ففعلوا وقالوا: هل من طعام؟(1/111)