[ثانياً: جواب السؤال]
فقلت في الجواب بعد حمد الله والصلاة على محمد وآله الهداة:
(أما ما سألتم عنه في شأن من أجمعت الأمة على بغيه على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وهو معاوية بن أبي سفيان وما رواه المحدثون من الأخبار، فقد عرفت أن من شأن المحدثين رواية الصحيح، والسقيم من ضعيف ومنكر وموضوع، ولتمييز الصحيح من غيره رجال اختصهم الله بهذا الشأن، وجاء بفضلهم القرآن، والأحاديث المروية فيه معارضة عند أئمتنا عليهم السلام بأحاديث صحيحة كحديث: ((إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاضربوا عنقه)) عند أئمتنا والحاكم وغيرهم، قال الحاكم: رواه الخدري وجابر وحذيفة.
قال الحسن: فلم يفعلوا فأذلهم.
وعن محمود بن لبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن هذا -وأشار إلى معاوية- سيريد الأمر من بعدي، فمن أدركه منكم فليبقر بطنه)).
وعن عبد الله بن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((سيطلع عليكم رجل من أهل النار)) (فطلع) معاوية.
وروى أبو ذر عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((أول من يغير سنتي رجل من بني أمية)).(1/92)


وحديث ((لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)) حديث متواتر رواه أئمتنا والمحدثون، وهو في البخاري ومسلم والنسائي من حديث زر بن حبيش قال: سمعت عليا [عليه السلام] يقول : (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولايبغضني إلا منافق). وأخرجه أحمد في مسنده من طريقين والزرندي في (درر السمطين) و(الشقيفي) و في (ذخائر العقبي) للمحب الطبري، وفي معناه أحاديث كثيرة عند المحدثين لا يُخْتَلَفُ في صحتها، وبالضرورة أن معاوية كان يبغض عليا [عليه السلام] ويكفي في معرفة ذلك ما رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده إلى عمار بن ياسر قال : كنت عند أبي ذر في مجلس لابن عباس وعليه فسطاط، وهو يحدث الناس، إذ قام أبو ذر حتى ضرب بيده إلى عمود الفسطاط ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة أبو ذر الغفاري، سألتكم بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء، ذا لهجة أصدق من أبي ذر))
قالوا: اللهم نعم.
قال : أفتعلمون أيها الناس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمعنا يوم غدير خم ألف وثلاثمائة رجل، وجمعنا يوم سمران خمسمائة رجل كل ذلك يقول: ((من كنت مولاه فإن علياً مولاه، اللهم وال من ولاه، وعاد من عاداه))، فقام عمر فقال: (بخ... بخ يابن أبي طالب[14أ] أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة).(1/93)


فلما سمع ذلك معاوية بن أبي سفيان اتكأ على المغيرة بن شعبة وقام وهو يقول: (لا نقر لعلي بولاية، ولا يُصَدَّقُ محمد في مقاله فأنزل الله على نبيه: ?فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى?[القيامة:31-35] تهدداً من الله وانتهاراً. فقالوا: (اللهم نعم)؛ وهذا مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال هذا الخبر في غير موطن.
وخبر (غدير خم) هذا خبر متواتر أخرجه محمد بن جرير الطبري من خمسة وسبعين طريقا، وأصحابنا من مائة وأربع عشرة طريقا بغير المقدمة التي هي: ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟)) وبها من مائة طريق ، وأخرجه محمد بن عقدة من مائة طريق، وخمس طرق.
قال الذهبي: (بهرني طرقه فقطعت بوقوعه). وبالجملة فهو مما اتفق عليه المؤالف والمخالف. ويؤكد ما ذكرناه من بغض معاوية لعلي[عليه السلام] ما رواه المغيرة بن شعبة وقد قيل له: إنك كنت من معاوية بمكان، فلم تركته؟
قال : نعم إن هذا الرجل كان أخبث عباد الله، كنت أسايره يوما وأحدثه حتى أنبسط إلي فقلت وقد ذكر بني هاشم: اعف عنهم وارفق بهم فإنما نلتم ما نلتم بقرابتكم منهم، فقال: اسكت إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفي فصار هذا الأمر إلى أبي بكر، فلما مات انقطع ذكره وذكر قومه، فصار إلى عمر، فلما مات انقطع ذكره وذكر قومه، وإن جماعة هذا الرجل يُنَادَى بهم في اليوم والليلة خمس مرات فليس لهم إلا أن يلزقوا بالتراب.
وقد فعل بمقتضى كلامه هذا وأحدث سب أمير المؤمنين [عليه السلام]، وسب أهل بيته وجعله سنة على المنابر إلى زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله والأحاديث الصحيحة المتواترة معي صريحة في أن حب علي كرم الله وجهه إيمان وبغضه نفاق، وقد عرفت ما أجمع عليه الأمة من بغي معاوية على أمير المؤمنين عليه السلام.(1/94)


وأما القول بأن بغيه عن اجتهاد حتى تكون له أجر فترده الأحاديث الصحيحة عند أئمتنا وغيرهم من المحدثين، كحديث عمار المشهور.
أخرج البخاري عن عكرمة قال: قال لي ابن عباس ولابنه: انطلقا إلى أبي سعيد [الخدري] فاسمعا من حديثه، فسمعناه يحدث حتى أتى على ذكر بناء المسجد
فقال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين فرآءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ((ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)) وهذا الحديث مما رواه المحدثون وأجمعوا[14ب] على صحته.
وأما قول الحميدي في (الجمع بين الصحيحين) إنه ليس في البخاري ((تقتله الفئة الباغية)) وأنه ليس فيه إلا ((يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) فمردود بما ثبت في نسخة (الضغاني) المقابلة على نسخة (الفريزي) التي بخطه ذكر ذلك ابن حجر في (فتح الباري)، وأثبت ذلك ابن الأثير في (جامع الأصول)، والسيوطي في جامعه، وروى هذا الحديث أحمد ومسلم والأربعة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث أبي سعيد الخدري وغيره من طرق كثيرة والترمذي أيضاً من حديث خزيمة بن ثابت، والطبراني من حديث عمر وعثمان وعمار وحذيفة وأبي أيوب وزياد وعمرو بن حزم، ومعاوية وعبد الله بن عمر وأبي رافع ومولاة لعمار، وغيرهم.
قال ابن عبد البر: (تواترت الأخبار بذلك وهو من أصح الحديث).
وقال ابن دحية: (لا مطعن في صحته، ولو كان غير صحيح لرده معاوية).
وهذا الحديث قاض بانتفاء الأجر عن معاوية، وأنه وحزبه بغاة يدعون إلى النار إلاَّ من تاب ورجع إلى الحق والصواب، وقد ثبتت أذيته لأمير المؤمنين [عليه السلام] ومحاربته له وإحداث سبه ولعنه على المنابر بحيث لا ينكر ذلك إلا مكابر والله سبحانه يقول: ?وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا?[الأحزاب:58]، وفي ذلك أحاديث كثيرة.(1/95)


أخرج الإمام المحدث علي بن عبد الله الزرندي في كتاب (درر السمطين) عدة منها، ومما أخرجه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام: ((كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك، يا علي: من أحبك فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أحب الله أدخله الجنة، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار)).
وإذا تصفحت كتب المحدثين وجدتها مملوءة من الأحاديث المتواترة إما لفظاً، أو معنى بذلك، فكيف يثبت الأجر لمن حاربه؟ وكيف يكون هذا الاجتهاد منجيا له مع ما تراه من الأخبار الصحيحة القاضية بإثمه وبغيه؟
والعجيب ممن قضى بإثم الساب لمعاوية، وحكم بجهله وغباوته ولعنه، وعدم مبالاة الله به في أي واد هلك، وليس له ما يوجب القضاء عليه بذلك إلا ما رواه كعب الأحبار وإلا ما رواه الترمذي من حديث: ((اللهم اجعله هاد مهديا)) ولا يقضى على من أمر بسب أمير المؤمنين على المنابر ولعنه في جوامع الأمصار، وجعله ذلك سنة بالإثم، وكون الله لا يبالي به في أي واد هلك.
أما حديث الترمذي الذي رواه، ونحوه كحديث: ((اللهم اهده)) فالأحاديث القاضية ببغيه وإثمه قاضية بعدم صحة ما ذكر، ولئن صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالأدلة الصحيحة موجبة للتأويل، وأن دعاءه صلى الله عليه [15أ][وآله وسلم] إن صح إنما كان كدعاء إبراهيم الخليل [عليه السلام] لأبيه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
أخرج مسلم عن ابن عباس قال : كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتواريت خلف باب، فحطأني حطأة وقال: ((اذهب إلى معاوية، فادعه لي)).
قال فجئت فقلت: هو يأكل ثم قال: ((اذهب فادع لي معاوية)).(1/96)

19 / 95
ع
En
A+
A-