وكان عليه السلام أعظم الناس علماً ولذا خصه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقضاء، فقال: ((وأقضاكم علي)). ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً في المسجد عنده أناس من الصحابة، فجاء إليه رجلان يختصمان، فقال أحدهما: يا رسول الله، إن لي حماراً ولهذا بقرة، وإن بقرته نطحت حماري فقتلته، فبدر رجل من الحاضرين فقال: لا ضمان على البهائم، فقال رسول الله: ((اقض بينهما يا علي)) فقال لهما علي عليه السلام: أكان الحمار والبقرة موثقين، أم كانا مرسلين؟ أو أحدهما موثقاً والآخر مرسلاً؟ فقالا: كان الحمار موثقاً والبقرة مرسلة، وكان صاحبهما معهما، فقال: على صاحب البقرة الضمان؛ وذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرر حكمه وأمضى قضاءه.
وعن ابن عباس أنه قال: ما انتفعت بكلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانتفاعي بكتابٍ كتبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فإنه كتب إلي: (أما بعد: فإن المرء يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، ويسره (درك) ما لم يكن ليفوته، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، وليكن أسفك على ما فات منها، وما نلت من دنياك فلا تكن به فرحاً، وما فاتك منها فلا تأس عليه، وليكن همك لما بعد الموت. والسلام).(1/82)


[نماذج مضيئة من كلامه عليه السلام]
ومن كلامه كرم الله وجهه: (لا تكون غنياً حتى تكون عفيفاً، ولا تكون زاهداً حتى تكون متواضعاً، ولا تكون متواضعاً حتى تكون حليماً، ولا يسلم قلبك حتى تحب للمسلمين ما تحب لنفسك، وكفى بالمرء جهلاً أن يرتكب ما نهي عنه، وكفى به عقلاً أن يسلم الناس[12أ] من شره، وأعرض عن الجهل وأهله، واكفف عن الناس بما تحب أن يكف عنك، وأكرم من صافاك، وأحسن مجاورة من يجاورك، وألن جانبك، واكفف الأذى، واصفح عن سوء الأخلاق، ولتكن يدك العليا إن استطعت، ووطن نفسك على الصبر على ما أصابك، وألهم نفسك القناعة واتهم الرجاء، وأكثر الدعاء تسلم من سَوْرَةِ الشيطان، ولا تنافس على الدنيا ولا تتبع الهوى وعليك بالشم العالية تقهر من يناوئك).
وذكر في (الفصول المهمة) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت على علي كرم الله وجهه في بعض (عِلاَّته وقد نقه)، فلما نظر إليَّ قال لي: (يا جابر، من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام بها كما أمر الله تعالى عرضها للدوام والبقاء، وإن لم يعمل فيها بما أمر الله تعالى عرضها للزوال والفناء).
قال جابر: ثم هز بضبعي هزة خيل لي أن عضدي خرجت من كاهلي وقال: يا جابر، حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملوا النعم فيحل بكم النقم، واعلموا أن خير المال ما أكتُسِبَ حمداً وأعقب حمداً ثم أنشأ يقول:
فإنّ ذلك نقص منك في الدين
فإنما هي بين الكاف والنون

لا تخضعن لمخلوقٍ على طمعٍ
واسترزقِ الله مما في خزائنه

قال جابر : فهممت أن أقوم فقال: وأنا معك يا جابر، فلبس نعليه وألقى إزاره على منكبيه، وخرجنا معاً نتساير فذهب بنا إلى الجبانة في (الكوفة)، فسلم على أهل القبور، فسمعت ضجة وهدة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟(1/83)


فقال [عليه السلام]: هؤلاء بالأمس كانوا معنا واليوم فارقونا، لا تسأل عن أحوالهم فهم إخوان لا يتزاورون، وأَودَّاءٌ لا يتعاودون، ثم خلع نعليه، وحسر عن ذراعيه وقال: يا جابر، أعطوا من دنياكم الفانية لآخرتكم الباقية، ومن حياتكم لموتكم، ومن صحتكم لسقمكم، ومن غناكم لفقركم، اليوم وأنتم في الدور، وغداً في القبور، وإلى الله تصير الأمور، ثم أنشأ يقول:
كأنهم لم يجلسوا في المجالس
ولم يأكلوا ما بين رطب ويابس

سلام على أهل القبور الدَّوارس
ولم يشربوا من بارد الماء شربةً(1/84)


[نتف من فضائله]
وأخرج البيهقي في كتاب (الفضائل) بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أراد أن ينظر إلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيئته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب)).(1/85)


[بين معاوية وضرار]
وقال معاوية لضرار بن ضمرة: صف لي علياً.
فقال: اعفني.
فقال: أقسمت عليك لتصفنه.
قال: أما إذا كان ولا بد، فإنه والله كان بعيد[12ب] المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً يتفجر العلم من جوانبه وينطق الحكمة من لسانه يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيري، إليَّ تعرضت! أم إليّ تشوقت! هيهات... هيهات قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق ؛ فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبِح ولدها في حجرها، فهي لا يرقى دمعها، ولا يخفى فجعها.(1/86)

17 / 95
ع
En
A+
A-