[عدله وأمانته وعفته وصدقه صلى الله عليه وآله وسلم ]
وأما عدله صلى الله عليه وآله وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته
فكان صلى الله عليه وآله وسلم أعدل الناس وآمنهم وأعفهم وأصدقهم لهجة منذ كان؛ وكيف لا يكون كذلك وهو أكرم الخلق على الله الذي أنزل عليه كتابه الكريم، وحثه فيه على كل خلق عظيم، وأمره بالعدل في ذكره الحكيم.
قال تعالى: ?الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ?[الحج:41]، وقال تعالى: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ?[آل عمران:159].
وكان صلى الله عليه وآله وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه.
مجلسه مجلس حلم وحياء وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم أزهد الناس في الدنيا، فتحت عليه الفتوح، وجبيت إليه الأموال، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله وهو يدعو ويقول: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)).(1/47)


وعن عائشة: لم يمتلئ جوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبعاً قط، ولم يبث شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحب إليه من الغنى، وإن كان ليصلي جائعاً يلتوى ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه، ولو يشاء سأل ربه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها، ولقد كنت أبكي له رحمة مما أرى به، وأمسح بيدي على بطنه[3ب] مما به من الجوع وأقول: نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك فيقول: ((يا عائشة، مالي وللدنيا، إخواني أولوا العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم، وأجزل ثوابهم، وأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غداً دونهم، وما من شيء هو أحب إليّ من اللحوق بإخواني وأخلائي)).
قالت: فما أقام بعد إلا شهرا حتى توفي صلى الله عليه وآله وسلم وكان صلى الله عليه وآله وسلم أخوف الخلق لربه.
أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة، وأحمد والشيخان والترمذي والنسائي من حديث أنس: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) زاد في رواية لأبي ذر ((إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى))، زاد ابن مردويه: ((يسبح الله ويحمده، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفُرُشِ ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)) زاد الحاكم والبيهقي: ((لا تدرون أتنجون)).
وفي حديث أبي هريرة: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. يظهر النفاق، وترفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويتهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين، أناخ بكم الشر والجور، والفتن كالليل المظلم)).(1/48)


وعن أمير المؤمنين كرم الله وجهه سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سنته فقال: ((المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني والحب أساسي والشوق مركبي وذكر الله أنيسي والثقة كنزي والحزن رفيقي والعلم سلاحي والصبر زادي والرضى غنيمتي والعجز فخري والزهد حرفتي واليقين قوتي والصدق شفيعي والطاعة حسبي والجهاد خلقي وقرة عيني في الصلاة))
وعن عائشة: ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه في شيء إلا أن تُهتك حُرمة الله تعالى فينتقم)) عند أئمتنا والبخاري ومسلم والموطأ وأبي داود.
وعن أنس قال: إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعبد، ويجيب إذا دعي.
وعنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه برد بحراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أثرت فيها حاشية البرد من شدة (جذبته)، ثم قال: يا محمد، أعطني من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه[4أ]رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضحك، ثم أمر له بعطاء. عند أئمتنا والبخاري ومسلم.
وعن أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء لم فعلت، وهلا فعلت. عند أئمتنا والشيخين.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل: ما بال فلان يقول كذا ولكن يقول: ((ما بال أقوام يقولون أو يصنعون كذا)) ينهى عنه ولا يسمي فاعله.
وعن جابر: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء فقال: لا.(1/49)


وعن عقبة بن الحارث قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العصر، فسلم ثم قام مسرعاً يتخطى رقاب الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال: ((ذكرت شيئاً من تبر كان عندنا فكرهت أن يبيت عندنا فأمرت بقسمته)) عند البخاري والنسائي.
وعند الطبراني من حديث سهل بن سعد: كان عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعة دنانير وضعها عند عائشة، فلما كان عند مرضه قال: ((يا عائشة، ابعثي بالذهب إلى علي، ثم أغمي عليه، وشغل عائشة ما به حتى قال ذلك مراراً، كل ذلك يغمى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويشغل عائشة ما به، فبعثت بها إلى علي عليه السلام فتصدق بها، وأمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حدير الموت ليلة الإثنين...)) الحديث.
وعند الطبراني مرفوعاً: ((من سره أن ينظر إليَّ فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فتشمر إليه، اليوم المضمار، وغداً السباق، والغاية الجنة أو النار)).
وعند أئمتنا والترمذي وغيره من حديث ابن مسعود قال: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطأً، فقال: ((مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)).
وعند ابن حبان من حديث عائشة قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرير من مُلٍ، فدخل أبو بكر وعمر فإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم نائم عليه، فلما رآهما استوى جالساً، فنظر فإذا أثر السرير في جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال أبو بكر وعمر: يا رسول الله، ما يؤذيك خشونة ما نرى من فراشك وهذا كسرى وقيصر على فرش الحرير والديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تقولا هذا، إن فراش كسرى وقيصر في النار، وإن فراشي وسريري عاقبته الجنة)).(1/50)


وعند البيهقي وغيره عن عائشة قالت: دخلت عليّ امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطيفة مثنية، فبعثت إليّ بفراش حشوه الصوف، فدخل إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: يا رسول الله، فلانة الأنصارية دخلت عليّ فرأت فراشك، فذهبت فبعثت إلي بهذا. فقال: [4ب] ((رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة)).
وعند أئمتنا وأبي داود من حديث ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر كان آخر عهده بإنسان خرج عنه من أهله فاطمة [عليها السلام] وإذا قدم من سفر كان أول من يدخل عليه فاطمة، فقدم يوماً من غزاة له وقد علقت مسحاً أو سترا على بابها، وحلت الحسن والحسين [عليهما السلام] قلبين من فضة، فلم يدخل، فظنت أنه إنما منعه أن يدخل ما رأى فهتكت الستر، وفككت القلبين عن الصبيين، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهما يبكيان فأخذه منهما وقال: ((يا ثوبان اذهب بهذا إلى فلان. قال: أهل بيت في (المدينة) إن هؤلاء أهل بيتي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان، اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج)).
وعند أئمتنا والشيخين ((ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )).(1/51)

10 / 95
ع
En
A+
A-