[بحث في الفرق بين الرجاء والإرجاء]
قوله: فيبقى راجياً خائفاً فهو ((يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه)) [الزمر:9].. الخ صفح 350.
الجواب: بل مرجياً متمنياً، فهذا التردد هو محض الإرجاء كما حققه نجوم الهدى، ورجوم العدى، وعليه قول اللّه تعالى: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّه)) [التوبة:106]، وأما القطعُ بخلف الوعيد فهو التكذيب بلا مراء، وأما الرجاءُ فقد بَيِّنَ اللّه تعالى أهلَهُ ومحلَهُ بمثل قوله تعالى: ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110]، وقوله عز وجل: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [البقره:218]، ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب:21]، وقال تعالى: ((إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)) [الأعراف:56]، وقال تعالى: ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:156].. إلخ.
وأمَّا مَن ارتكب الجرائم، وأمن العظائم، فقد أحلَّ الرَّجاءَ في غير محله، ووضعه في غير أهله، ((وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ)) [الأعراف:202].(1/36)
وقد قطع اللّه تعالى أماني المتمنين بما حكم به في محكم كتابه: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) [النساء:123]، وقال تعالى: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)) [ق:29]، وقال عز وجل: ((يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) [النازعات:41].
وهذا عام في كل من طغى، فمن حرَّفه فقد بغى، ((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)) [الجاثية:6]، ((وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) [الجاثية:7].(1/37)
[اضطراب أقوال المرجئة والحشوية]
ولَم تقف المرجئة والحشوية عند حد، ولا استقرت في المذهب على معتقد، تارةً يقولون: قول لا إله إلا اللّه كافٍ، ومرة إنه لا وعيد على أهل القبلة، وأخرى: إنه إن دخل النار فيخرج كما ترى، وتارة يسوون بين المؤمنين والفاسقين، وكل هذا خلاف ماجاء به القرآن، وسنة سيد ولد عدنان، ولهم روايات لفقوها، وترهات اختلقوها، فما خالف كتاب اللّه تعالى، وسنة رسوله، وأهل بيت نبيئه صلى اللّه عليه وآله وسلم مما افتراه أهل البدع من الوضع، فهو مطرود عن مقاعد السمع، ((وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)) [البقره:165].
[ادِّعاء ابن الأمير أنَّ الحصر في قوله تعالى ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ...))، قد عارضَ الحصرَ في قوله تعالى ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ...))، والجواب عليه]
وقوله: يقال عليه: الحصر هنا قد عارض حصرَ أول آية استدل بها للمدعى فإنه حصر المؤمنون هناك على ماعرفت من المعاني وهنا على غيرها.. الخ صفح 250.(1/38)
الجواب: لايتوجه كلامه هنا أصلا لأنه في الآيات من قصر الصفة على الموصوف لامن قصر الموصوف على الصفة كما يعرف ذلك أهل المعرفة، فإذا قصرت الصفة على موصوفها فلايقتضى أن لايكون موصوف بغيرها وهذا بَيِّن.
وقوله: فلم تتم دلالة تلك الآية على المدعى.. الخ.
الجواب: قد بيَّنَا وجهَ دلالتها آنفاً على ترك المقبحات، ويأتي هنا مثله، وهو أنَّها من حيث كونها دالة على بعض الأركان تكون دالة على البعض الآخر، إذ لافصل بينها، ثُّمَّ إنَّه لا يلزم من كونها غير دالة على الكلِّ بطلانُ دلالتها مع غيرها عليه، وإنَّما كلامُهُ هذا لو صح يتوجه على نفس العبارة لا غير، فليس له طريق إلى مايروم، ولا مستروح حول مايحوم، فكتاب اللّه تعالى، وسنة رسوله ـ صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ شاهدان ناطقان، بأن الإيمان: التصديق بالْجَنَان، والقول باللسان، والعمل بالأركان، قال عز وجل: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)) [المؤمنون:1-3] إلى قوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) فأوضح المؤمنين بصفاتهم، وقَصَرَ إرثَ الجنةِ عليهم، وقال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون)) [الحجرات:15].
ومما رواه المنصور بالله عن الإمام علي بن موسى الرِّضا عن آبائه ـ صلوات اللّه عليهم ـ: ((الإيمانُ معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان))، وغير ذلك مما لا يحصى قد مُلئت به الأَسْفار، ودَوَّنَته الأَئمةُ الأَطهار.
وأما الخطاب في ((منكم))(1)[4])، فبطلان المتمسك به أوضح من أن يحتاج إلى بيان.(1/39)
[تخصيص ابن الأمير قوله تعالى ((الَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ))، على الصحابة، والجواب عليه]
وقوله: وأُجيب عن الآية بأنَّ المراد بـ((الَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ)): الصحابةُ لا كل مؤمن... الخ ما في صفح 250.
الجواب: يقال: هذا إبطال للعموم الصحيح، وخروج عن الحقِّ الصريح، وقد تقرر أنَّه لا يجوز تخصيص العموم في الأصول إلا بقاطع؛ لأنَّ دلالته على ما تناوله قطعية، كما هو الذي يوجبه الوضع، وأيضاً المطلوب في مسائل الاعتقاد القطعُ، إذ الدخول فيها بغير العلم قبيح، والله تعالى له غير مبيح، ((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) [يونس:66]، ((إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [يونس:68] فكيف يذمه لنا ثم يتعبدنا به تعالى؟!.
وإذا كان المطلوب العلم فالحكيم سبحانه لا يكلف عباده العلم بما لا يفيدهم، فلو أَطلقَ العام وأراد الخاص من دون بيان قاطع مثله لكان تكليفاً بما لا يطاق، والله يتعالى عنه، فتأمل تصب.
[ادِّعاء ابن الأمير أنَّ قوله تعالى ((إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ...))، واردة في الكفار]
وقوله: أقول: الآية واردة في الكفار، وسياقها فيهم.. الخ.
الجواب: اعلم أنَّ مدارَ كلامِهِ هنا على الاستدلال بالمفاهيم، والأحاديث المختلقة في معارضة صرايح الآيات القاطعة، ومتواتر السنة الساطعة.
والحق أبلج والبرهان متضح .... وبيننا محكم الآيات والسور
…(1/40)