المراد بافتراق البيعين
الحمدلله وحده، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبعد.
فالذي تقرر عندي أن المراد بالافتراق في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البيعان بالخيار فيما تبايعا حتى يفترقا عن رضا)) هكذا رواية الإمام الأعظم زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والأخبار في هذا الباب متواترة؛ افتراق الأبدان كما رواه في البحر وغيره عن أمير المؤمنين وزين العابدين والباقر والصادق وأحمد بن عيسى والناصر والإمام يحيى بن حمزة عليهم السلام.أولا: أنه المفهوم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البيعان)) فلايطلق عليهما ذلك الاسم حقيقة إلا بعد الإيجاب والقبول ولاموجب لارتكاب المجاز لايقال: وتسميتهما بعد تقضي الفعل منهما مجاز. لأنا نقول: لاسواء فإن اشتقاق اسم الفاعل لمن سيفعل أبعد من اشتقاقه لمن قد فعل.
ثانياً: أن الفرقة بالأقوال لاتكون إلا مع المخالفة والمعارضة لامع الاتفاق كما في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ)) الآية، وقوله تعالى: ((وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ)).. الآية، فالبائع والمشتري لم يختلفا في العقد بل أوجباه واتفقا عليه.(1/381)
ثالثاً: أنه مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام وهو مع الحق والقرآن والحق والقرآن معه. وقول غيره من أهل البيت والصحابة كابن عباس وابن عمر وأبي برزة وهم أعرف الناس باللغة العربية.
وأما قول الإمام زيد بن علي عليهما السلام: إنما يقول بالفرقة بالأبدان من لايعرف كلام العرب.. الخ. فهو محمول على من قصر الفرقة على الأبدان ولم يثبت الفرقة بالأقوال والعقائد كما هو صريح الحصر في قوله عليه السلام: وإنما يقول بالفرقة بالأبدان.. الخ. فنحن نثبت الفرقة بالأقوال لكن مع الاختلاف كالآيات التي احتج بها الإمام مثل قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ)) الآية.(1/382)
فأما الأخبار المروية في افتراق البيعين فالمراد بها فرقة الأبدان وفي الخبر الذي رواه الإمام عليه السلام وهو: ((البيعان بالخيار فيما تبايعا حتى يفترقا عن رضا)) مايفيد ذلك، وبهذا يعرف أنه لابد أن يكون البيعان مجتمعين سواء كانا في مجلس أو على دابتين أو سفينتين أو نحو ذلك مهما كان يطلق عليهما الاجتماع ولايشترط المجلس بخصوصه، وهذا هو المقصود بخيار الفرقة فقد أثبته الشرع لهما كخيار الشرط والرؤية والعيب، فالاستدلال بقوله تعالى: ((تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ)) وقوله تعالى: ((أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)) وقوله تعالى: ((وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ)) لايعارض ذلك كما سبق في الخيارات الثابتة فما أجابوا به فهو جوابنا، وقد روى البيهقي بسنده إلى سليمان بن موسى عن نافع، عن ابن عمر، وعن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أنهما كانا يقولان: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من اشترى بيعاً فوجب له فهو بالخيار مالم يفارقه صاحبه إن شاء أخذه فإن فارقه فلاخيار له))، فقوله: فوجب له؛ أي تم البيع وانبرم. وكذلك قضاء أبي برزة واسمه عباد بن نسيب رواه عنه أبو الوضي قال: غزونا غزوة فنزلنا منزلاً فباع صاحبنا فرساً لغلام، ثم أقام بقية يومهما وليلتهما، فلما أصبح من الغد حضر الرحيل، فقام إلى فرسه يسرجه وندم، فأتى الرجل وأخذه بالبيع، فأبى الرجل أن يدفعه إليه، فقال: بيني وبينك أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر، فقالا له: هذه القصة فقال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البيعان بالخيار مالم يفترقا)) . وفي رواية أنه قال: ما أراكما افترقتما.. أخرج الحديث أبو داود. وهذا على سبيل الاستظهار والحجة ماتقدم.(1/383)
وأما احتجاج الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام بعد تصحيحه للخبر ((البيعان بالخيار مالم يفترقا)) على أن الافتراق بالأبدان يلزم منه في المحبوسين ونحوهما ألا يقطع الخيار بينهما.. الخ كلامه عليه السلام، فلايعارض ماسبق من الأدلة وهذه حالة نادرة ويمكن أن يصححا البيع بينهما بالاختيار كما ورد في بعض الأخبار من ذلك مارواه في شرح الأحكام بسند صحيح عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل متبايعين فكل واحد منهما على صاحبه بالخيار مالم يفترقا أو يكون خيار)). ويلزم في خيار الرؤية حيث يكونان محبوسين ولم يكن المبيع عندهما.
وقد رجح في البحر كلام القائلين بفرقة الأبدان بقوله: قلت: إن أجمع على صحة خبرهم فهو أقوى ولايعارضه ماذكرناه أي الآيات السابقة ((تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ)) ((أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)) ((وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ)) بل كالمطلق والمقيد والخبر أولى من القياس، أي القياس على النكاح.وقوله: إن أجمع على صحة خبرهم. يقال: قد صح الخبر ولايحتاج إلى الإجماع عليه.
وقد رواه الإمام زيد بن علي في مجموعه وهو في أمالي الإمام أحمد بن عيسى وأحكام الإمام الهادي وفي الجامع الكافي وشرح الأحكام وشرح التجريد وشرح القاضي زيد، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك، وعلى الجملة الخبر متواتر.
وقال السيد العلامة شارح الأساس أحمد بن محمد الشرفي رضي الله عنه في كتاب ضياء ذوي الأبصار: وهذا الحديث رواه كثير ولعله متواتر، وحمله على تفرق الأقوال خلاف الظاهر.وحكى عليه السلام في البحر عن بعض العترة عليهم السلام وبعض الفقهاء أن خيار المجلس قبل التفرق مشروع في كل عقد ولو مشاركة أو صلحاً، لا النكاح إذ شرع لدوام العشرة، والخيار ينقضه ولا الرهن لبقائه على ملك المالك، ولا الهبة من غير عوض والصدقة إذا شرع لدفع الغبن ولا غبن فيهما.. الخ كلامه.(1/384)
فإن قيل: كيف يخالف الإمام زيد بن علي والإمام الهادي إلى الحق عليهم السلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وزين العابدين عليهم السلام.
فالجواب: إن الروايات الصحيحة لاترد لمثل هذا لاستبعاد، وفي ذلك احتمالات لاتخفى على ذي النظر الثاقب على أن اعتمادنا على الأخبار المتواترة التي لانزاع فيها ولايجوز العدول عن الدليل لاجتهاد مجتهد أو قول قائل كما هو معلوم، فقول الإمامين الأعظمين الإمام زيد بن علي والإمام الهادي عليهم السلام ومن تبعهما في تفسير الافتراق بالأقوال صادر عن نظر واجتهاد ولو رويا أو أحدهما في ذلك خبراً عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو عن أمير المؤمنين عليه السلام لم نعدل عنه فهما إماما آل محمد والمقتدى بهما عند أهل الحق، ولكنهما لم يقولا ولا أحد من أهل البيت عليهم السلام بوجوب المتابعة لهما على المجتهدين لاسيما في ماصح لهم من الدليل كيف وهما فاتحا باب الجهاد والاجتهاد.
البيع والشراء بواسطة التلفونات
وقد ورد سؤال في العقود ونحوها بواسطة التلفونات مثل البيع والشراء .. الخ السؤال فأجاب عنه الولد العلامة الأوحد الحسن بن محمد الفيشي حفظه الله وأفاد بما يقتضيه نظره الثاقب وفكره الصائب، وقد أحال الجواب علينا فأقول:قد أوضحت ماعندي في ذلك بما سبق من اعتبار الاجتماع بين المتبايعين في عقود المبايعة ونحوها لاعتبار الشارع الافتراق، وقد تقرر أن المراد بالافتراق فرقة الأبدان ولايكون إلا بعد الاجتماع حسبما سبق تحقيقه وعدم اعتبار المجلس بخصوصه، فأما كلام أهل المذهب فقد نصوا نصاً صريحاً لايحتمل التأويل على اعتبار المجلس وأنه لايكفي العلم بوقوع الايجاب والقبول مالم يكونا في مجلس واحد ولهذا نصوا على عدم صحة عقد الراكبين على دابتين أو سفينتين.(1/385)