ومما لم يتضح عليه دليل اشتراط أن يدرك المصلي قدر آية من الخطبة لصحة الجمعة لقيام الخطبتين مقام ركعتين، وهذا من كلام عمر ولاحجة فيه، والمختار ماذهب إليه بعض أئمة الهدى منهم إمام الأئمة زيد بن علي والإمام المؤيد بالله والإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة والإمام القاسم بن محمد وولده الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم عليهم السلام وقد أجاب الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة على جعلهم الخطبتين بمثابة ركعتين لأنه لايستقيم على أصولهم إذ قد أوجبوها على المسافر _أي: النازل وسامع النداء_، ولأنها لو كانت بمثابة ركعتين لكان من لم يستمع الأولى يصلي ثلاثاً وإجماعهم على خلافه، قال الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم: ويلزمهم أيضاً ألا يتولاهما ـ أي: الخطبتين ـ والصلاة إلا شخص واحد كالصلاة وهم لايشترطونه انتهى. والأخبار واردة: ((أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)). وهذا عام في الجمعة وغيرها مع أن في بعض الروايات: (( من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك )) وعلى الجملة فلا تسقط فريضة الجمعة المقطوع بها بلا دليل والله تعالى ولي التوفيق. قلت: وهذا هو المختار المعمول به عندي وكذا غيرها من الشروط التي لم يقم عليها دليل واضح، فلا معنى لاسقاط هذه الفريضة المؤكدة المعلومة في القرآن بشروط لم ينزل الله بها من سلطان والله المستعان.(1/361)
الهجرة
هذا وأما قولكم: وفي بلاد الكفر. فقد أشرت إشارة عابرة إلى وجوب الهجرة بنحو قوله تعالى: ((وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل واعلم أن دار الكفر هي مالا تظهر فيها الشهادتان إلا بجوار أو بأن تظهر فيها خصلة كفرية من غير جوار وإن ظهرت فيها الشهادتان من غير جوار هذا كلام أهل المذهب، وعند الإمام المؤيد بالله وأبي حنيفة أن الحكم لظهور الشهادتين في البلد من غير جوار فتكون دار الإسلام وإن ظهرت فيها الخصلة الكفرية من غير جوار، والمختار كلام الإمام المنصور بالله عليه السلام: أن الإعتبار بالشوكة، والدليل على ذلك أن مكة المكرمة صارت دار إسلام بعد الفتح وكان فيها كثير ممن يظهر الكفر بغير جوار. إذا عرفت هذا فقد نص أعلام أئمتنا كالقاسم والهادي والناصر عليهم السلام أنها تجب الهجرة عن دار الكفر وعن دار الفسق وهي ماظهر فيها ما يوجب الفسق من دون أن يتمكن المسلمون من إنكار المنكر بالفعل. قال المنصور بالله: وهو الظاهر من مذهب أهل البيت عليهم السلام. قال في اللمع: وإلا فسق بالإقامة لقوله تعالى: ((فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ)) ولهذه العلة يكفر من ساكن الكفار عند القاسم والهادي. قال المنصور بالله: وإن لم يستحل الوقوف معهم لأنه أظهر على نفسه الكفر. قال في مهذبه: وكان وقوفه معهم أكثر من سنة وتجب الهجرة إلى خلي عما هاجر لأجله، فإن لم يجد خاليا وجب عليه أن يهاجر إلى ما فيه دون ما هاجر لأجله، ويجب عليه أن يهاجر بنفسه وأهله إلا لمصلحة دينية كإرشاد بعض أهلها أو مرض أو حبس أو خوف سبيل. والأدلة على وجوب الهجرة معلومة وهو قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ(1/362)
قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ)) [النساء:97-99] وقال تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ)) [الأنفال:72] وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)) وفي شرح الأساس المسمى بعدة الأكياس: وروى السيوطي في الجامع الكبير عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار)) أخرجه أحمد والطبراني وابن منده والبيهقي عن عبدالله بن السعدي، وروى أيضا: ((لا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، ختم على كل قلب وكفي الناس العمل))، قال: أخرجه ابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن عمر، وما روى عن عبدالله بن السعدي، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو)) قال الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد عليهما السلام: وهذا لا شك في صحتهلموافقته الكتاب العزيز من نحو قوله تعالى: ((مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ)) والعدو يعم الكفار وأهل الطغيان والبغاة والمنافقين. انتهى من أنوار التمام هذا الذي أمكن إيراده.(1/363)
قال الإمام القاسم عليه السلام: فاعلم أنه إن حمل على فعل المعصية وجبت عليه الهجرة إجماعا بين علماء الإسلام كافة، وكذلك مع أمر الإمام بالهجرة فتجب إجماعا، ومن جملة المعاصي الموجبة للهجرة إعانة الظالمين سلاطين الجور بالغارة معهم وتسليم المال إليهم بالقسر أو الرضى، فإذا حصل مع شخص أحدها أو خاف صدور ذلك منه وجب عليه الإنتقال لقوله تعالى: ((فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)) [النساء:140] قال في أنوار التمام: وقد تقدم ما يقتضي حظر المساكنة للظلمة بالآيات الصريحة والسنة الصحيحة، قال: وقد روى الهادي عليه السلام في الأحكام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((المعين للظالمين كالمعين لفرعون على موسى صلى الله عليه وسلم)) وأخرج الطبراني في الكبير عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثلاث من فعلهن فقد أجرم، من عقد لواءً في غير حق، أو عق والديه، أو مشى مع ظالم لينصره)) قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً)) انتهى. هذا ما تيسر إيراده، وقد استوفيت الكلام في هذا وغيره في مجمع الفوائد، والله تعالى ولي التوفيق والهداية إلى أقوم طريق.(1/364)
في الثوب الذي يغطي الكعبين:
والجواب عن السؤال الثاني وهو عن الثوب الذي يغطي الكعبين أنهم نصوا في الجزء الثالث من شرح الأزهار في صفحة (109) في الحاشية بقولهم: فرع والسنة في الإزار والقميص أن يكون إلى نصف الساق ولابأس بالزيادة إلى ظهر القدم، ذكره في الأحكام، وما زاد عنه فهو منهي عنه، إلا في حال الصلاة فيجوز ويكره إلى الأرض، ذكره أصحاب الشافعي. انتهى من البيان. هذا كلامهم نقلته لأن في السؤال عنهم خلافه، فينظر أين ذكروا أن الصلاة غير مقبولة، والمختار الكراهة للتنزيه إن نزل إلى تحت الكعب مطلقاً _أي في الصلاة وغيرها_، والتحريم إن صحبه الخيلاء لتقييده به في بعض الأخبار ويحمل المطلق على المقيد.
فيما يقال في سجود التلاوة
والجواب عن السؤال الثالث وهو فيما يقال في سجود التلاوة زيادة على ماذكرتم فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: (( اللهم لك سجدت، ولك اسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم اكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود)) رواه في شرح البحر، ويكبر للإفتتاح وللسجود وإن زاد أو نقص في الدعاء فلاحرج، وعند أهل المذهب أنه يسبح فيها بتسبيح الصلاة، وعندهم أنه يكون بصفة المصلي في الوضوء والطهارة، وعند الإمام أبي طالب والمنصور بالله عليهما السلام أنه لايشترط، وهو الراجح لأنها ليست بصلاة، ولم يرو في ذلك شيء، وعندهم أنها لاتصح في صلاة الفريضة وتصح في النافلة، والمختار أنها تصح مطلقاً، ولو كانت تقتضي الفساد لأفسدت في النافلة، وقد صحت في الفريضة في أخبار صحيحة منها عن أمير المؤمنين عليه السلام.(1/365)